عندما تناول الاقتصاديون التضخم في الأسعار واعتبروه « شر لا بد منه « إذ أن تصاعد نسب التضخم تأتي مصاحبة للنمو الاقتصادي الناتج عن تصاعد الطلب الكلي على السلع والخدمات، وصُنّف التضخم وفق عدد من المسميات، وأنها جميعا تؤكد أن التضخم ظاهرة لها آثار سلبية كثيرة على الدخول وعلى الأسواق، وأن التضخم الجامح يتسبب بمشاكل اقتصادية – مالية وحتى اجتماعية. ومع ذلك فإن التضخم، ومنذ تصدع معظم الاقتصادات العالمية بتأثير الأزمة المالية (2008) أصبح مؤشره منشودا وإن نسب تطوره دليل على نمو الاقتصاد أو ركوده، فارتفاعه مؤشر على بدء التعافي الاقتصادي.
ومنذ 2008 بدأ الطلب الكلي على السلع والخدمات في أسواق الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي واليابان يتراجع، فتراجع مؤشر التضخم تدريجيا مؤكدا ركود الاقتصادات الكبرى وانكماش بعضها، وبدأت دوائر رصد المتغيرات الاقتصادية تتابع مؤشرات التضخم لقياس مدى التقدم الذي يطرأ على مجمل النشاط الاقتصادي.
«ماريو دراجي» رئيس البنك المركزي الأوروبي قال متحدثا عن تراجع مؤشر التضخم في الاقتصادات الأوروبية «إن البنك يجب أن يراقب «على وجه الخصوص أي دوامة هبوط في الأسعار بمنطقة اليورو، وأن البنك لن يستسلم لتدني معدل التضخم لفترة طويلة، وأن البنك المركزي يقف على أهبة الاستعداد لمواجهة انكماش الأسعار ومستعد لأخذ إجراءات تقليدية وتدابير تستهدف قطاعات محددة وأن خيار شراء السندات على نطاق واسع يظل قائما.
وقال في كلمة بعنوان «السياسة النقدية في فترة طويلة من التضخم المنخفض»: إن هناك ما يبرر اتخاذ مزيد من الإجراءات الاستباقية وأن من المتوقع أن يعود معدل التضخم ببطء إلى المستوى الذي يستهدفه البنك المركزي عند أقل قليلا من 2%. ويبلغ التضخم في المنطقة 0.7 % حاليا.
وتدعم تصريحات دراجي تلميحات مسؤولين آخرين في المركزي الأوروبي بأن البنك مستعد لأخذ إجراءات لمواجهة التضخم المنخفض والإقراض الضعيف بدول منطقة اليورو..
وعليه فإن البنك المركزي الأوروبي لن يسمح للتضخم بالبقاء منخفضا للغاية لفترة طويلة ومن الإجراءات التي يدرسها البنك خفض معدلات الفائدة ومنح قروض بنكية جديدة ووضع برنامج شراء أصول أكثر شمولا.
وقد بلغ معدل التضخم السنوي 0.7 % في أبريل 2014 أقل من الهدف الذي حدده البنك ويبلغ 2 %. ويرجع تراجع معدل التضخم الذي بلغ أقل من 1% لعدة أشهر جزئيا إلى تراجع أسعار السلع في منطقة اليورو. ومع ذلك تجدر الإشارة إلى أن تراجع معدلات التضخم بصورة كبيرة ينطوي على خطورة متمثلة في ارتفاع تكلفة تمويل الديون. وهذا من شأنه الإضرار بالانتعاش الاقتصادي الوليد في منطقة اليورو.
وبقدر الإجراءات الاستباقية التي يعتزم البنك المركزي الأوروبي اتخاذها لدفع مؤشر التضخم إلى نسب أعلى، فإن الحكومة اليابانية ومنذ مجيء رئيس الوزراء «شينزو آبي» لرئاسة الحكومة اليابانية في ديسمبر 2012 تعهد بإنعاش الاقتصاد الياباني الراكد من خلال رفع تسب التضخم.
فهبوط أسعار المستهلك في السوق علة مدى السنوات الأربع الماضية أضر بالطلب المحلي لليابان، ونتج عنه اتجاه المستهلكين والشركات إلى التقليل من المشتريات على أمل الحصول عليها بأسعار أقل في المستقبل. وكانت الحكومة اليابانية قد رفعت الضريبة على المبيعات من 5% إلى 8% في أبريل 2014.
وبعد عدد من الإجراءات التي تابعت اتخاذها الحكومة اليابانية ارتفعت الأسعار بنسبة 3.2% في أبريل 2014 مقارنة بالفترة نفسها من عام 2013 وهو ما فاق التوقعات التي كانت قد أشارت إلى قفزة لا تتجاوز 3.1%.
وجاء ارتفاع أسعار المستهلك بهذه الوتيرة بعد معركة طويلة خاضها الاقتصاد الياباني مع الانكماش، أو تراجع الأسعار، على مدار العقدين الماضيين، مع تأكيد صناع السياسات على أن تلك الخطوة تُعد من أهم العوامل اللازمة لاستعادة اليابان انتعاشها الاقتصادي.
وكانت حكومة اليابان قد اتخذت بعض الخطوات على مدار أشهر 2014 في إطار محاولتها للحد من هبوط أسعار المستهلك، وحددت أن المستهدف الأساسي للتضخم هو 2%.
وبدأت تلك الإجراءات بالفعل، بما فيها تعزيز المعروض النقدي لليابان، في إظهار أثر ملحوظ على أسعار المستهلك التي واصلت ارتفاعها تواليا من منتصف 2013. وتأمل الحكومة في أن يكون هذا الارتفاع سببًا في دفع المستهلكين والشركات نحو المزيد من الإنفاق والتوقف عن الإحجام عن الشراء، لأنهم مع تفادي الشراء في الوقت الحالي، سوف يضطرون لشراء متطلباتهم بأسعار أعلى في المستقبل، نظرًا للارتفاع المستمر في الأسعار، ومع ذلك فقد تجددت المخاوف حيال إمكانية أن يؤدي ارتفاع التضخم إلى تراجع الإنفاق فأظهرت البيانات الصادرة، يوم 30-5-2014 هبوطًا في إنفاق قطاع الأسر إلى 4.6 % في أبريل، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
وجاء ذلك في أعقاب تراجع مبيعات التجزئة بنسبة 4.4% في أبريل 2014. ومع ذلك يرى محللون أن هبوط الإنفاق يرجع جزئيا إلى تهافت المستهلكين على الشراء قبل تطبيق الزيادة على ضريبة المبيعات. وكان ذلك واضحا في شهر مارس 2014 عندما ارتفعت نسبة المبيعات إلى 11%، التي تمثل أسرع وتيرة للنمو منذ مارس عام 1997.
بإعادة قراءة ما تقدم عن تلك المتابعة الدقيقة لتطور نسب التضخم في الدول المتقدمة، لأدركنا أهمية الصدق في إعلان تلك النسب التي تشير إلى ضعف الاقتصاد في انكماشه أو ركوده وفي استقراره أو نموه، وأنها دليل للمنتج وللتاجر وللمستهلك وللمؤسسات الحكومية للوقوف على حقيقة الواقع الاقتصادي، إنها الشفافية التي لا غنى عنها وفي ضوء دلالاتها يصنع القرار الحكومي والإنتاجي والاستهلاكي.
وعند متابعة ما يعلن عن نسب التضخم في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية فإن المستوى العام للأسعار لا يكاد يطابق ما يعلن عن نسب التضخم . ففي دراسة حديثة في الأرقام المعلنة عن نسب التضخم في دول مجلس التعاون الخليجي، ووصفتها بأنها غير دقيقة لأسباب عدة أهمها دعم الحكومات الخليجية لبعض السلع والمنتجات والخدمات، وغياب إحصاءات للأسعار القياسية وموازنة الأسرة في الدول الخليجية.
وأوضحت الدراسة التي أعدتها «الأمانة العامة لدول مجلس التعاون الخليجي» أن المؤشر الأكثر وضوحاً للتضخم الحقيقي هو معدل دخل الفرد في دول الخليج، ولفتت إلى أن هناك تناقصاً واضحاً في القوة الشرائية، مقارنة بما كانت عليه في السنوات الأخيرة.
وأرجعت الدراسة أسباب التضخم إلى النمو الاقتصادي السريع وارتفاع الإيرادات النفطية منذ عام 2000، الأمر الذي أدى بالتالي إلى زيادة الإنفاق الحكومي، خصوصاً في مشروعات البنية الأساسية، وزيادة الطلب على العقارات من قبل القوى العاملة الوافدة التي زادت أعداد استقدامها تواليا، ما أدى إلى ارتفاع أسعار مواد البناء والإنشاءات.
وأكدت الدراسة أن أحد أسباب التضخم يعود إلى ارتفاع الطلب على السلع الاستهلاكية، إضافة إلى ارتفاع سعر هذه السلع في دول المنشأ، وارتفاع تكاليف عمليات الإنتاج والنقل، وزيادة رسوم الخدمات الحكومية.
وأوضحت الدراسة أن الكثير من رؤوس الأموال والاستثمارات بدأ يعيد النظر في البقاء في الخليج، في حين قررت استثمارات أخرى الهجرة من الخليج إلى أسواق أخرى في العالم. وطالبت الدراسة بتشديد الرقابة على أسعار السلع والخدمات والحد من ارتفاع أسعار إيجارات العقارات.
ودعت الدراسة إلى إنشاء شركة مساهمة عامة بالتعاون بين القطاعين العام والخاص من مختلف الدول الخليجية، تشتري جماعياً السلع الأساسية من مصادرها الرئيسية في دول المنشأ، وتوزعها على الموزعين المحليين، وفقاً لحصص محددة مسبقاً.
وإذا كانت تلك الدراسة قد أعدت في ذروة ارتفاع أسعار السلع والخدمات خلال عام 2007، وقد تغير الحال منذ حلول الأزمة المالية العالمية، فالمعلن من نسب التضخم في دول المجلس تتراوح بين أقل من1% إلى 3% لا يعكس واقع أسعار السلع والخدمات التي يتعيّن على المستهلك الخليجي دفعها مباشرة في أسواق البيع بالمفرد.
نقلا عن عُمان