بعد سنوات من التضييق... وزارة الصناعة تسمح بالمصانع داخل المدن: من يُحاسب على ما ضاع؟

06/07/2025 0
م. جابر بن حسن أبوساق

في الوقت الذي تُرفع فيه شعارات تمكين القطاع الخاص، وتنمية المحتوى المحلي، وزيادة مساهمة الصناعة في الناتج المحلي، تشهد وزارة الصناعة والثروة المعدنية السعودية تخبطًا غير مسبوق في سياساتها تجاه المصانع القائمة خارج المدن الصناعية. ومنذ عام 2020، بدأت الوزارة عبر لجان مشتركة بتنفيذ قرارات تقضي بإغلاق أو نقل أي مصنع لا يقع ضمن أراضٍ صناعية مخصصة، دون توفير بدائل حقيقية أو دعم فعلي.

بناءً على قرار مجلس الوزراء رقم 181 بتاريخ 5 / 5 / 1434هـ، والأمر الملكي رقم 14/24 بتاريخ 18 / 7 / 1441هـ، شكّلت الوزارة لجنة ميدانية مكونة من أربع جهات حكومية، كانت مهمتها النزول للمصانع القائمة خارج المدن الصناعية وتقييمها. والنتيجة كانت إصدار إنذارات رسمية تطالب المصانع بالحصول على جميع التراخيص النظامية خلال 90 يومًا فقط، رغم أن بعضها كان يعمل منذ سنوات، ولم يكن موقعه مخالفًا حين أنشئ. لم تكن هناك أي دراسة اقتصادية مصاحبة لهذه القرارات، ولا أي تمويل أو تمكين، فقط تهديد بالإغلاق أو الترحيل القسري.

المفارقة الكبرى جاءت في عام 2025، عندما أصدرت الوزارة نفسها قرارًا جديدًا يُنظم القطاع الصناعي ويسمح فيه بـ ترخيص مصانع خفيفة داخل النطاق العمراني وعلى الشوارع التجارية، بشرط أن تكون منخفضة التأثير البيئي. هذا القرار وحده يُسقط القرارات السابقة الصادرة منذ 2020 ضد مصانع قائمة، ويُظهر بوضوح تناقض الوزارة مع نفسها خلال فترة لا تتجاوز 5 سنوات.

إذا كان المصنع في 2020 يُعتبر "غير نظامي" لأنه داخل مدينة، فكيف يُسمح في 2025 بترخيص مصنع جديد داخل نفس النطاق؟ هل يُعقل أن يُغلق مصنع قائم بحجة الموقع، ثم يُرخص لغيره في الموقع نفسه بعد بضع سنوات؟ هذا التناقض لا يُفسَّر إلا بغياب الرؤية المتكاملة، وتغيير السياسات دون مراعاة الاستثمارات القائمة أو التبعات المالية المدمّرة على المستثمر المحلي.

ومما يزيد الأمر سوءًا، أن المصانع التي طُلب منها الانتقال إلى المدن الصناعية، وُوجهت بواقع مؤلم: غياب البنية التحتية. فمدينة نجران الصناعية، كمثال حي، لا تزال بلا كهرباء كافية للمصانع حتى اليوم، ما يجعل النقل إليها مستحيلًا من الناحية التشغيلية. أي أن الوزارة تطلب من المستثمر نقل مصنعه إلى منطقة غير مهيأة أصلًا، دون تعويض، ولا تمويل، ولا حتى خطة زمنية واقعية. هذه السياسات لا تُصنَّف إلا كقرارات طاردة للصناعة الوطنية.

وخلال هذه الفترة، لم تُعلن الوزارة عن أي برنامج حقيقي لمعالجة المصانع القائمة، ولم تفتح أي نافذة تمويلية لتغطية تكاليف التصحيح، ولم تُطلق أي إعفاء من الرسوم، ولم تُقدم خرائط واضحة للمناطق البديلة. بل اكتفت بإصدار قرارات رقابية وتشكيل لجان تنفيذية بدون أي صلاحيات تمكينية.

أما الأثر الاقتصادي فهو واضح للجميع: هروب مستثمرين سعوديين إلى الخارج، وتجميد خطوط إنتاج، وتراجع في عدد المصانع النشطة، وزيادة استيراد المنتجات من الخارج، في وقت كان يفترض فيه أن تكون هذه المصانع جزءًا من الأمن الصناعي والاكتفاء المحلي.

اليوم، مع صدور القرار الجديد في 2025، تبرز أسئلة جوهرية لا بد من الإجابة عنها:

من يُحاسب على قرارات 2020–2021 التي أغلقت مصانع قائمة؟

من يعوّض أصحاب المصانع الذين نقلوا أو أوقفوا نشاطهم؟

لماذا غابت الرؤية الشاملة؟

كيف تُصدر الوزارة ثلاثة قرارات تنظيمية متضاربة خلال أقل من 5 سنوات؟

هل أصبح المستثمر المحلي حقل تجارب للبيروقراطية الصناعية؟

منذ إطلاق رؤية 2030، كان الأمل أن تكون وزارة الصناعة أحد أعمدة التحول الوطني، لكن الواقع المؤلم هو أن الوزارة أصبحت عبئًا على المستثمر بدل أن تكون حاضنته. وما لم يتم الاعتراف بالأخطاء ومحاسبة من تسبب بهذا التخبط، فإن الثقة في البيئة الصناعية السعودية ستستمر في التراجع، مهما كانت النوايا الإصلاحية في المستقبل.

 

 

خاص_الفابيتا