عرضت في مقالين سابقين في يونيو الماضي لموضوع الخارطة الصناعية لدول مجلس التعاون وشرحت فيهما كيف أنها تمت استناداً إلى ثلاثة مسوحات قامت بها منظمة الخليج للاستشارات الصناعية؛ أولها مسح صناعي للتعرف على الصناعات القائمة بالفعل، وثانيها دراسة لبيانات الواردات السلعية لدول المجلس، وثالثها مسح لإمكانيات البحث والتطوير المحلية. وقد تطرقت في المقالين السابقين إلى الحديث عن جوهر موضوع الخارطة وهو "الصناعات الغائبة"، إضافة إلى الصناعات المستقبلية الواعدة وخاصة الصناعات المعرفية. ويستحق موضوع الخارطة الصناعية مقال ثالث يسلط الضوء على إمكانيات البحث والتطوير العلمي في دول المجلس وبخاصة القدرة على تقديم اختراعات أو ابتكارات في مختلف نواحي الحياة. فهذا الجانب هو الذي يميز الدول بين بعضها البعض في القدرة على تحقيق تقدم في المجالات المختلفة، ومن بينها المجال الصناعي.
لقد كان النجاح في التصنيع رهناً بتوافر مجموعة من العناصر هي المواد الخام، والقوى المحركة، وقوة العمل، ورأس المال، والتنظيم والسوق، والتكنولوجيا. وكان العنصر الأخير أقل أهمية من بقية العناصر في ظل إمكانية شراء حق استخدام التقنيات من أصحابها، والقدرة على جلب العمالة الرخيصة من دول أخرى، مع وجود أسواق واسعة للمنتجات في دول شرق آسيا، فضلاً عن احتياجات الأسواق المحلية. وكان توفر المواد الخام والطاقة ورأس المال أساسياً في قيام الجيل الأول والثاني من الصناعات في دول مجلس التعاون في الفترة التي امتدت من منتصف الستينيات من القرن الماضي، وحتى السنوات الأولى من الألفية الثالثة. وتركزت هذه الصناعات في انتاج البتروكيماويات الأولية والوسيطة والأسمدة الكيماوية والإسمنت، والمعادن الأساسية كالحديد والألمنيوم. وبمرور الوقت تغيرت المعطيات المحددة لقيام الصناعة وخاصة مع انتهاء فترات السماح التي أعقبت قيام منظمة التجارة العالمية، حيث باتت المنافسة على أشدها بين الدول في مجال الصناعة، ولم يعد بالإمكان حماية الصناعات الوطنية بالرسوم الجمركية أو بالقيود الكمية المفروضة على الواردات إلا في حدود ضيقة. وواجهت دول مجلس التعاون صعوبات جمة في تسويق منتجاتها الصناعية في أوروبا بسبب إدعاءات الأوروبيين بأن المنتجات الخليجية تحظى بدعم في حصولها على المواد الخام والطاقة. كما أن هذا النوع من الصناعات الثقيلة قد صاحبه زيادات كبيرة في قوة العمل الوافدة إلى دول المنطقة، مما أثر سلباً على التركيبة السكانية في دول المجلس، ناهيك عن التأثيرات البيئية الضارة لتكدس أعداد كبيرة من هذه المصانع في المناطق الصناعية. ومن هنا كان التركيز في الخارطة الصناعية على ضرورة التوجه للصناعات المعرفية التي تعتمد على أعداد قليلة من العمالة، ولا ينتج عنها تلويث للبيئة، مع وجود فرص للمنافسة فيها عالمياً. وهذا النوع من الصناعات يتطلب أكثر من غيره وجود مراكز أبحاث على المستوى الوطني والجامعات ولدى الشركات لكي تستطيع تقديم منتجات جديدة دون أن تتحمل تكاليف باهظة في الحصول على براءات الإختراع.
ورغم ما أشارت إليه خارطة الصناعة الخليجية من تزايد الاهتمام الحكومي بقضايا البحث العلمي في السنوات الخمس الأخيرة، إلا أن هذه الدول لا تزال متأخرة مقارنة ببعض دول العالم التي شهدت ازدهاراً اقتصادياً وتحولاً صناعياً سريعاً. وكان مما استرعى الانتباه في الخارطة الصناعية ذلك الجدول الإحصائي المتضمن لإجمالي براءات الإختراعات الممنوحة لدول مجلس التعاون مجتمعة في الفترة 2006-2008 حيث بلغ العدد نحو 315 براءة في ثلاث سنوات بمتوسط 105 براءة في السنة الواحدة علماً أن ثلثي هذا الرقم قد تحقق للسعودية بمفردها، وخُمسَه للإمارات. وهذه الأرقام محدودة للغاية إذا ما قورنت بدول أخرى تُقاس براءات اختراعاتها السنوية بالآلاف. وقد حفزتني هذه الأرقام للبحث عن أحدث البيانات في هذا المجال للعام 2010 الذي تتوافر فيه بيانات مكتملة، وبدرجة أقل بيانات 2011، من التقرير السنوي الصادر عن المنظمة العالمية للحقوق الفكرية الصادر في مارس 2012. وقد وجدت أن السعودية قد حققت بعض التقدم في هذا المجال ومثلها الإمارات العربية المتحدة، في حين تأخرت الدول الأخرى حيث تراجعت براءات الإختراع الممنوحة للكويت إلى 5 فقط، ولم تظهر أسماء قطر والبحرين وعمان في القائمة لا في عام 2010 ولا في عام 2011.
يعطيك العافيه وبارك الله فيك
أشكرك على المتابعة وأرجو أن تقرا بقية المقال في القسم الثاني يوم الأحد القادم بإذن الله