انحدار اليورو .. تفسير وتداعيات ودروس

10/10/2022 2
د.صالح السلطان

يمر اليورو بمرحلة انحدار حاد تجاه العملة المنافسة الأولى الدولار. وهي ليست المرة الأولى، فقد كانت قيمته أعلى قليلا من قيمة الدولار في بداية ظهور اليورو قبيل بداية هذا القرن الميلادي. ثم انخفضت قيمته قبل 20 عاما تقريبا، ثم أخذ في الارتفاع حتى وصلت قيمته إلى 1.6 دولار تقريبا لكل يورو في 2005. ثم أخذ في النزول منذ 2008 بصورة متذبذبة بين صعود وهبوط، لكنه بقي أعلى من الدولار حتى أواسط هذا العام. أما في الشهور الماضية فقد انخفضت قيمته تدريجيا إلى أن صار الدولار أعلى قليلا من اليورو بنحو 10 في المائة وقت ظهور هذا المقال.

على رأس أسباب انحدار اليورو أن أوروبا تعاني حاليا ضعفا اقتصاديا، وكان هذا الضعف سببا جوهريا في تبني "أوبك" قبل أيام خفضا في الإنتاج لمواجهة انكماش محتمل في أوروبا وعالميا بصفة عامة. والانكماش بطبيعته يؤدي إلى انخفاض الطلب. خلاف أن دول "أوبك" تحاول وضع حد أدنى للأسعار لتحقيق أغراض منها حماية الإيرادات، ودفع العالم إلى مزيد من الاستثمار النفطي، فزيادة الطاقة الإنتاجية.

انحدار العملة الأوروبية يأتي في ظل مخاوف من استمرار الضعف الاقتصادي، بل محتمل أن يزيد هذا الضعف مع الارتفاع المستمر في أسعار الغاز والكهرباء. في هذا السياق حذرت تقارير من تعرض القارة الأوروبية لأكبر صدمة للطاقة عبر عشرات الأعوام، بسبب ضعف مستويات ملء خزانات الغاز الأوروبية. والنتيجة تهديد موارد الإنتاج وتدفئة المنازل في الشتاء المقبل.

يرى كثير من المسؤولين الروس بناء على مصالح بلدهم أن أنسب نهج حمائي من ضعف اليورو يتركز في الانتقال إلى طرق دفع جديدة في التجارة، باستخدام العملات الوطنية، كالروبل واليوان والروبية. من المهم الإشارة إلى نقطة. ضعف اليورو ليس فقط بسبب الضعف الواضح في النشاط الاقتصادي في منطقة اليورو. ضعفه أيضا بسبب قوة الدولار وتزايد الطلب عليه في الأسواق العالمية، على حساب عملات رئيسة أخرى. ومعروف أن أسعار الطاقة في السوق العالمية مسعرة ومدفوعة في الأغلب بالدولار. ومن ثم، فإن ارتفاع أسعار الطاقة يؤدي آليا إلى زيادة الطلب على الدولار، ويزيد من النظر إليه على أنه العملة الملاذ الأكثر أمانا في السوق العالمية، ما يزيد الطلب عليه.

ما قدرة البنك المركزي الأوروبي على تدارك أزمة اليورو؟ هل بدأ الاتحاد الأوروبي يدفع ثمن العقوبات المفروضة على قطاع الطاقة الروسي؟ موضوعات حية للنقاش.

من المفارقات محاولات نقل عبء الديون من طرف إلى طرف. وهذا النقل صنع بذور مشكلة الديون السيادية. وقد بين عدد من علماء الاقتصاد أن الإفراط في الاستدانة سواء من الحكومة أو من القطاع الخاص، يجلب مخاطر أقوى مما يظن خلال فترات الازدهار الاقتصادي. ويمكن أن يفهم ذلك من كون الازدهار يجلب نهايته بنفسه إذا بني على أسس ضعيفة، أو بنيت عليه تصرفات مفرطة في التفاؤل، لأنه يحفز سلوكيات تعمل على تقويض التوسع، وبالأخص يجلب التوسع ضغوطا تضخمية تصنع آثارا وسلوكيات تنهي التوسع. ورأينا قبيل الأزمة المالية العالمية في 2008 كيف أن النمو الاقتصادي العالمي أنتج إفراطا في السلوك المالي، ووضع بذور وقوع تلك الأزمة.

وهناك علاقة بين المديونية العامة وحجم وهيكل القطاع العام وتكوين الإيرادات والنفقات. وهي قضايا مؤثرة في استدامة المالية العامة. وفي نطاق هدف الاستدامة، ينبغي أن تمارس السياسة النقدية بالتناغم مع سياسات المالية العامة والمالية الخاصة، نظرا إلى أن الأخيرة وسيلة فاعلة لاكتساب الاستقرار في ظل ظروف تتسم بشدة التقلبات الخارجية ذات التأثيرات بالغة الحدة في الأوضاع الاقتصادية المحلية. وجاءت الأزمات لتزيد من تأكيد هذه النقطة.

زيادة الدين الأوروبي بحدة خلال الأعوام الأخيرة ليس كله حكوميا، بل بعضه قطاع خاص. نسبة كل واحد منهما في منطقة اليورو بقيت شبه ثابتة تدور حول 80 في المائة من الناتج المحلي لكل واحد "العام أو الخاص" عدة أعوام قبل أزمة كورونا. لكنها زادت بعد الأزمة لتصل حاليا إلى ما يعادل الناتج المحلي تقريبا. وقد اتخذت خطوات لمعالجة أزمات ديون حكومية أوروبية، أو الحد منها بصورة كبيرة. لكن النتائج طبعا دون المؤمل.

ما علاقة ما سبق بالصين؟ قامت في الأعوام السابقة ضغوط من الغرب على الصين لرفع قيمة عملتها الرينمنبي. من أهداف هذه الضغوط تخفيف القوة التصاعدية للصادرات الصينية، عبر رفع سعر الصادرات الصينية، وخفض سعر الواردات للصين. كان هناك نوع استجابات من الصين، لكن أزمة اليورو أعطت الصين فرصة للتراجع عن فعل ذلك، لأنه سيعمل على خفض تنافسية صادراتها. بينما نرى زيادة تنافسية الصادرات الأوروبية بسبب الانخفاض الحاد في اليورو. لكن حدة التضخم قللت من ميزة انخفاض اليورو، فالتنافسية.

هل متوقع تحسن أو ضعف أكبر لليورو في الشهور المقبلة؟

طالما أن هناك مخاوف من حصول انكماش أو على الأقل ضعف نمو اقتصادي، لعوامل منها شدة التضخم وتزايد عدم اليقين بشأن استمرار إمدادات الغاز الروسي، فإن حصول مزيد ضعف لليورو أقرب للتوقع من حصول تحسن. يؤيد بعض الخبراء هذا التوقع، بالنظر إلى دخول الخريف وقريبا جدا الشتاء، ما يزيد من استهلاك الغاز. ويرى خبراء في اليورو أن مستقبل اليورو يميل إلى السوداوية ما لم يحصل تدخل من البنك المركزي الأوروبي وتعاون بينه والفيدرالي الأمريكي بصورة غير معتادة.

أخيرا درس لمجلس التعاون. بناء عملة موحدة يتطلب تدابير تتجاوز بكثير ما تم الاتفاق عليه قبل ولادة اليورو، وفي هذا درس عظيم الفائدة لدول مجلس التعاون، حيث قد يعول البعض على التجربة الأوروبية، في إصدار عملة خليجية موحدة.

 

 

نقلا عن الاقتصادية