لأن الموازنة العامة لهذا العام هي الأعلى في تاريخ قطر، لذا فإنها تستحق أكثر من مقال للبحث في مضامينها وانعكاساتها على الواقع الاقتصادي على مدى شهور السنة الحالية التي بدأت قبل أيام وتمتد حتى نهاية مارس 2011. وقد أشرت في عُجالة يوم الأربعاء الماضي إلى بعض هذه المضامين والإنعكاسات وأحاول أن أعرض لها اليوم بتفصيل أكبر، باعتبار أن الإعلان عن تقديرات الموازنة العامة ليس خبراً عادياً كبقية الأخبار التي تنشرها وسائل الإعلام، ولكنها حدث استثنائي يتوقف عنده الكثيرون من أجل قراءة ما سيكون عليه حال الاقتصاد في سنة قادمة، فإذا ما جاءت هذه التقديرات شفافة وواضحة فإنها تفي باحتياجات المخططين في معظم القطاعات الاقتصادية. ولكي تتضح الصورة أشير إلى بعض الأمثلة: ففي الشركات العقارية التي يتركز نشاطها على بناء الوحدات السكنية بغرض التأجير، فإن نشر أرقام الموازنة العامة عن بند الأجور والرواتب يساعد في معرفة ما إذا كانت الحكومة ستحتاج إلى مزيد من الوحدات السكنية أم لا، ويعرف المواطنون ما إذا كان هناك توسع في استحداث وظائف جديدة أو في منح ترقيات وعلاوات، وتعرف شركات المقاولات من بند السلع والخدمات إلى أي مدى سيكون التوسع في مجال إنشاء الطرق والكباري والمستشفيات والمدارس وتمديدات الكهرباء والماء. من هنا فإن نشر أرقام النفقات العامة بالتفصيل يساعد شرائح كثيرة في المجتمع على إنجاز أعمالها باعتبار أن الإنفاق العام هو المحرك الأساسي للقطاع الخاص في الدول النامية. كما أن نشر الأرقام التفصيلية للإيرادات العامة مهم في الإطمئنان إلى أن الاعتمادات المقررة للنفقات لن يتم اختزالها إذا ما أدت ظروف طارئة إلى تراجع حاد في سعر برميل النفط كما حدث في عام 2008.
1- تحليل جانب الإيرادات: تم تقدير الإيرادات العامة استناداً لسعر 55 دولاراً لبرميل النفط، وهو ما يزيد بمقدار 15 دولار للبرميل وبنسبة 37.5% عن سعر موازنة العام 2009/2010، مما رفع الإيرادات المقدرة إلى 127.5 مليار ريال، فهل يعني ذلك أن الزيادة العامة في الإيرادات المقدرة في الموازنة بمقدار 38.8 مليار ريال وبنسبة 44%، سيكون أغلبها من ترفيع سعر النفط فقط؟ وهل النسبة المتبقية من الزيادة أي الـ 6.5% ستكون فقط من زيادة إيرادات الغاز نتيجة زيادة الكميات المصدرة منه، أم أن إيرادات الضريبية ستكون أقل بعد خفض نسبة ضريبة الدخل على الشركات الأجنبية، وأن إيرادات الاستثمار ستكون أقل في ظل استمرار ظروف وتداعيات الأزمة العالمية؟ الملاحظ أن الأرقام التفصيلية عن الإيرادات الفعلية تكون متاحة ومنشورة في التقرير السنوي لمصرف قطر المركزي، وبعض التقارير الأخرى محلياً ودولياً، ولكنها تكون عن سنوات سابقة، مما يقلل الاستفادة منها على النحو المطلوب. واستناداً لهذا التحليل فقد يكون من الأفضل لو تم نشر البيانات التفصيلية عن الإيرادات النفطية والغازية، وإيرادات الاستثمار والإيرادات الأخرى.
2- تحليل جانب النفقات العامة: أشار بيان الموازنة العامة إلى أن جملة النفقات العامة المقدرة ستكون في حدود 117.9 مليار ريال بزيادة مقدارها 24.3 مليار ريال وبنسبة 25% عن إجمالي تقديرات نفقات العام السابق البالغة 95.5 مليار ريال. وتتوزع هذه النفقات في العادة على أربعة أبواب ويتم إيجازها في مجموعتين رئيسيتين هما النفقات الجارية والنفقات الإنمائية أو ميزانية المشروعات الرئيسية. وقد جرت العادة في السنوات الأخيرة على أن يتم نشر التقديرات المتعلقة بالنفقات الإنمائية فقط وقد بلغت 43.5 مليار ريال مقارنة بـ 38 مليار ريال في عام 2009/2010 . الجدير بالذكر أن التقديرات المماثلة للسنة 2008/2009 قد بلغت 40.5 مليار ريال، وأدت تداعيات الأزمة إلى خفض النفقات الإنمائية الفعلية إلى 32.9 مليار ريال في تلك السنة. وعلى ذلك فإن الرقم المعتمد للعام الجديد والبالغ 43.5 مليار ريال بزيادة 5.5 مليار ريال عن العام السابق يظل عُرضة لما سيحدث من تقلبات في جانب الإيرادات، ولكنه يظل مع ذلك رقم كبير إذا ما قورة يما كان عليه الحال قبل أكثر من 6 أو سبع سنوات.
على أن نشر موازنة النفقات الإنمائية قد جاء مقتصراً على التفاصيل الخاصة بقطاعي الصحة والتعليم، دون الإفصاح عن المخصصات المعتمدة لمشروعات أخرى كالطرق، والكباري، والصرف الصحي، وشبكات المياه والكهرباء واستملاك الأراضي. ومثل هذه المعلومات تظل مطلوبة ومفيدة في توقع حجم الإنفاق الحكومي في مجالات بعينها، وهي في كل الأحوال ليست سرية وكانت تنشر في التقارير السنوية للمصرف المركزي.
ولم يتعرض بيان الموازنة العامة لبند الرواتب والأجور أو الإنفاق الحكومي على السلع والخدمات أو مصروفات الفوائد على القروض والمصروفات الجارية الأخرى. وقد أعطيت في المقال السابق بعض التقديرات لمثل هذه النفقات على ضوء ما توافر من بيانات في تقرير صندوق النقد الدولي وعلى ضوء ما هو منشور في تقارير مصرف قطر المركزي السنوية حتى العام 2008 والذي صدر في بداية هذا العام. ونلاحظ بوجه عام أن هناك زيادة في مجمل النفقات الجارية في السنة الجديدة بنحو 17.9 مليار ريال أو ما نسبته 31.7%، فكيف توزعت هذه الزيادة على بنود الإنفاق الجاري المختلفة، وهل ستؤثر هذه الزيادة الكبيرة على معدل التضخم؟ هذا ما لم يرد له نص في بيان الموازنة، رغم أهميته في إعطاء قراءة وافية لمحتويات البيان.