اعتادت الشعوب العربية أن تأتي مؤتمرات القمة متأخرة جداً في مواجهة الأحداث الساخنة التي تشهدها منطقتنا من المحيط إلى الخليج، وإذا انعقدت القمة في موعدها الدوري المحدد سلفاً، فلا يكتمل حضور الرؤساء والملوك، وغالباً ما يحضر ثلثة منهم ويكتفي الباقون بإرسال مندوبين عنهم، بما يعكس قناعة البعض منهم-الذين لا يحبسهم العُذر عن الحضور- بعدم جدوى المشاركة، فينعكس ذلك سلباً على نتائج المؤتمر وقراراته، فتصدر بالحد الأدنى الذي لا يساعد على نصرة قضايا الأمة ولا في حل مشاكلها، بل ويزيدها ضرراً وتعقيداً .
وقد كان ما جرى في قمة الدوحة في العام الماضي خير دليل على ما نقول؛ إذ أنه رغم فظاعة العدوان الهمجي على غزة، ورغم المحاولات الجادة والمستميتة التي بذلتها دولة قطر لعقد قمة استثنائية في مواجهة الحدث إلا أن القمة لم تنعقد. وعندما التأم شمل القادة في الموعد المقرر للقمة العادية، لم تستطع استصدار القرارات التي يمكن أن تداوي جراح غزة أو أن تسعف أهلها، وظلت قرارات إعادة بناء ما دمرته الحرب حبيسة الأدراج، في ظل إصرار الحكومة المصرية على استمرار الحصار ومنع مواد البناء من دخول القطاع.
بل وازداد الأمر سوءا بموافقة مصر على إقامة سور فولاذي منيع بتمويل أمريكي يُكمل حصار القطاع، بحجة منع التهريب إلى غزة. فهل بعد ما جرى في قمة الدوحة أمل في أن تأتي القمة العربية المنعقدة في سرت بليبيا بقرارات تدعم صمود أهل القدس في مواجهة التهويد والاستطيان الذي استشرى في المدينة المقدسة، والذي أسرعت حكومة إسرائيل المتطرفة في وتيرة تنفيذه، متحدية بذلك كل العالم بما في ذلك الحليف الأكبر في واشنطن؟ قد يكون الأمر في قمة سرت أهون على القادة بكثير مما واجههم في قمة الدوحة، فهم على الأقل مجمعون على خطورة ما يجري في القدس، وعلى ضرورة فعل شيئ لإنقاذ مسرى النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه، وأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، والأهم من ذلك أن ما قد يصدر عن القمة لدعم صمود القدس والمقدسيين، لا يتعارض مع توجهات الحكومة الأمريكية التي تطالب علناً بوقف الاستطيان في هذه المدينة، وبضرورة اتخاذ حكومة نتنياهو لعدد من خطوات بناء الثقة مع الفلسطينيين، من أجل استكمال مفاوضات السلام المتجمدة.
من هنا يبدو من السهل على الزعماء العرب المجتمعين في سرت إصدار حزمة من القرارات الاقتصادية والسياسية التي ستعمل على وقف التدهور المتسارع في المدينة المقدسة. وكما أشارت التقارير فإن إحياء صندوق القدس بضخ نصف مليار دولار جديدة إليه قد يكون في باكورة ما تقدمه القمة لهذه القضية الملتهبة. والمبلغ ليس باليسير من حيث قيمته، ولكنه يهون في سبيل حماية الأقصى، ولا ننسى أن بعض أغنياء اليهود قد تبرعوا بضعف هذا المبلغ من أجل تنفيذ مشروعات الاستيطان وشراء الأراضي في القدس.
كما أن من المنتظر أن تصدر عن القمة بعض القرارات السياسية لملاحقة إسرائيل في المحاكم والمنظمات الدولية بأمل أن يُسهم ذلك في تعطيل اندفاع هجمتها الاستطيانية على ما يُفترض أنها عاصمة فلسطين. وإذا كنا نرحب بهذا الفعل المنتظر عن القمة -رغم مخالفته لتوقعات الشارع العربي عن نتائج القمم بوجه عام- إلا أن دون وضع القرارات موضع التنفيذ العديد من العقبات التي قد تحول دون تحقيق أهدافها، أو دون وصول أموال الصندوق إلى مستحقيها.
وأول هذه العقبات أن تمنتع بعض الدول أو أن تتأخر عن الوفاء بما عليها من التزامات، وذلك أمر تعودت عليه بعد الدول سواء عن قصد أو لضيق ذات اليد، والثاني أن تتجمع الأموال في الصندوق، ولكن لا تصل إلى المقدسيين بسبب التعقيدات المتمثلة في الشروط المحددة للانتفاع منه. صحيح أن التدقيق مهم وضروري لمنع تسرب هذه الأموال إلى ذوي النفوذ في السلطة، إلا أن عدم إيجاد البدائل الذكية والمتطورة في مواجهة الحيل الإسرائيلية يجعل الصندوق عقيماً وبدون جدوى. فقد يفيد الصندوق في دفع الغرامات التي يتعرض لها المقدسيون، وفي دفع الأموال اللازمة لاستصدار تصاريح البناء لهم، وفي إقامة الدعاوى أمام المحاكم الإسرائيلية لوقف أوامر الهدم والإخلاء، إلا أن توافر الأموال اللازمة لشراء الأراضي يظل العقبة الأهم؛ والتي يجب الإسراع في تذليلها وتوفيرها لمستحقيها، لدعم صمودهم وتمسكهم بالبقاء في أرض الآباء والأجداد.
ويظل هنالك خطر داهم قد يترتب على قرار القمة بدعم صندوق القدس، وهو أن يرفع العدو سقف طلباته التعسفية من المقدسيين في مواجهة القرار العربي، ثم لا تصل الأموال لهم بالقدر الكافي أو في الوقت المناسب، فتزداد مصاعبهم ومتاعبهم. إن الأرقام المتاحة عما وصل إليه النشاط الاستيطاني في مدينة القدس، وما آل إليه حال المقدسيون الذين يُطردون من بيوتهم أو الذين يؤمرون بهدم تلك البيوت بأموالهم وبأيديهم، لهو أمر لا يمكن السكوت عليه، ولا بد أن يواجه بانتفاضة ليست فلسطينية بالحجارة فقط، وإنما عربية تكون مدعومة بالمال وبالضغط السياسي الفاعل في كل المحافل الدولية من أجل حماية مقدساتنا.
وأحسب أن الفعل العربي سيجيئ هذه المرة متأخراً –كما حدث في كل مرة –ولكن أن يأتي الأمر ولو متأخراً أفضل من أن لا يأتي مطلقاً، وأخشى أن يكون صندوق دعم القدس هو آخر السهام التي يقاتل بها العرب اسرائيل في حربهم المقدسة منذ ستة عقود.