يبدو أن العالم يقترب بقوة من تسجيل رقم قياسي للديون المطلقة، بما تصل قيمته إلى 300 تريليون دولار، والتي تتحملها مختلف القطاعات الاقتصادية سواء حكومية أو قطاع خاص أو أسر، حيث نمت هذه الديون مجتمعة بمقدار الثلث بين أعوام 2014-2021، ومعها نما إجمالي نسبة الديون إلى الناتج المحلي الإجمالي في ذات الفترة بمقدار 70 مليار دولار تقريبًا، وإن قلت النسبة بين عامي 2020 و2021، بفعل عملية التعافي وارتفاع النواتج المحلية للدول.
غير أن نسبة الديون إلى الناتج المحلي الإجمالي العالمي ما تزال مرتفعة جدًّا؛ فقد وصلت إلى 353% في عام 2021، حتى بعد نزولها من 362% في 2020، وهو العام الذي اضطرت فيه الدول الغنية وحدها إلى إنفاق 12 تريليون دولار؛ أي ما يعادل 31% من إجمالي نواتجها المحلية مجتمعة لمواجهة الجائحة، دون احتساب جهود البنوك المركزية العالمية في التحفيز المالي وخفض أسعار الفائدة.
منذ اندلاع الجائحة بلغ الناتج العالمي الإجمالي 84.5 تريليون دولار، بينما قفزت الديون المترتبة على الحكومات إلى 86 مليار دولار، أي أكثر من الناتج العالمي الإجمالي بترليون دولار ونصف، وبلغت الرقم نفسه بالنسبة للشركات غير المالية، بينما تصل ديون القطاع المالي إلى 69 تريليون دولار؛ وهو ما نسبته 81% من الناتج العالمي، بينما بلغ دين القطاع المنزلي 55 تريليون دولار، أي ما نسبته 65% من الناتج العالمي.
رغم أهمية توفير التمويل لمن يحتاجه، ومركزية الديون في الاقتصاد العالمي، إلا أن مثل هذه النسب الرهيبة تعني أن العالم مملوك فعلياً للدائنين، وعلى سبيل المثال، فإن المواطنون العاديون يعانون أكثر من غيرهم من الديون؛ فعلاوة على ديونهم المنزلية، والتي تبلغ أكثر من 65% من الناتج العالمي الإجمالي، فهم يتحملون نسبة كبيرة من ديون حكوماتهم؛ من خلال الضرائب التي يدفعونها للحكومة، كما أن نسب الديون المرتفعة في الشركات، قد تؤدي إلى تخفيض الأجور وتقليل التوظيف؛ ما يعني وظائف سيئة وأقل، وبطالة أعلى، وقدرة أقل على تحمل التكاليف اليومية.
يحدد الاتحاد الأوروبي النسبة الآمنة للدين مقابل الناتج المحلي الإجمالي في بلد ما، عند نسبة 60%، مع معدل نمو 3% كل عام، وقد تجاوزت النسبة العالمية للديون الحكومية على الناتج المحلي الإجمالي هذه النسبة بكثير، وهذه النسبة التي حددها الأوروبيون تقتصر على ديون الحكومات فقط، ولا تتعداها إلى أنواع الديون الأخرى، ولا تملك كل دول العالم نسبة دين متشابهة أو متقاربة، بل إن بعض الدول تساهم في تخفيض هذه النسبة كثيرًا نظرًا إلى انخفاض نسبة ديونها إلى الناتج المحلي الإجمالي، وهناك دول أخرى تساهم بشكل أكبر في رفع معدلات النمو العالمية، فالصين مثلًا مدينة بـ66% نسبة إلى ناتجها الإجمالي، وهي من النسب المنخفضة مقارنة بغيرها من الاقتصادات الكبيرة؛ إذ يملك غرب أوروبا والولايات المتحدة دينًا عامًّا يتجاوز 100% من الناتج المحلي الإجمالي.
تاريخيًّا؛ ترتبط موجات الديون الضخمة بأزمات مالية عميقة هزت العالم، وكانت آخرها أزمة عام 2008، وللمفارقة فإن هذه الأزمة العالمية أطلقت الموجة الحالية من التوسع في الديون والاقتراض، ثم جاءت جائحة كورونا لتعمق هذا الاتجاه، وتزيد من الاعتماد على الديون والحاجة إليها، بينما تسهل البنوك المركزية عمليات خلق الأموال وتخفض الفوائد لتصبح الديون أقل تكلفة.
لا يمكن التنبؤ بدقة بميعاد الأزمة القادمة، ولا بالشكل الذي ستطل به على العالم، ولكن بأخذ هذه الأرقام والنسب بعين الاعتبار، وكونها تنمو بشكل مضطرد، فإن ذلك يرجح بقوة احتمالية اقتراب العالم من حافة أزمة عالمية جديدة عنوانها الديون، ، فالانهيار الاقتصادي في لبنان على سبيل المثال متعلق بأزمة الدين العام، والأزمة الاقتصادية الحالية في تركيا مرتبطة بأسعار الفائدة، وبالنمو المعتمد على الاستدانة من الخارج، من طرف القطاع الخاص التركي تحديدًا، بشقيه المالي وغير المالي.
تعد أزمة شركة إيفرجراند الصينية أوضح مثال على تداعيات الديون؛ فقد تسبب تخلف شركة واحدة عن دفع بعض دفعات ديونها إلى اضطراب في الأسواق العالمية، ومخاوف من مخاطر الإفلاس أو تحقيق خسائر فادحة، وانتقلت العدوى إلى الأسواق المالية التي انخفضت فيها أسعار الأسهم بشكل ملحوظ في يوم واحد، نتيجة للمخاوف من تباطؤ الاقتصاد الصيني، وما يعنيه ذلك من تباطؤ التعافي العالمي، ونعتقد أن أزمة الديون قادمة لا محالة؛ ما لم يعمل العالم بشكل مشترك على معالجة المشكلة، وإطلاق عملية إصلاحات كبيرة للاقتصاد والأسواق المالية، تقضي على الإدارة السيئة للديون، وتوقف الطريق نحو أزمة تؤثر على العالم أجمع، في ظل نظام اقتصادي ينطوي على تناقض هيكلي.
خاص_الفابيتا