تمتاز المملكة العربية السعودية بخصائص فريدة تميزها عن باقي دول العالم، حيث منحها الله -سبحانه وتعالى- مجموعة من المقومات الاقتصادية والطبيعية. ومن هذه الخصائص التنوع الجغرافي الذي تتمتع به والذي يمكن أن يسهم في تعزيز مساهمة الاقتصاد غير النفطي. فعلى سبيل المثال، توجد كميات كبيرة من المعادن التي لم تُستغل اقتصادياً، حيث تقدر قيمة المعادن الموجودة في باطن الأرض حوالي 9.4 تريليون ريال (وفقاً لأرقام وزارة الصناعة والمعادن)، ونتيجة ذلك هدفت رؤية المملكة إلى تعزيز قطاع التعدين ليصل حجمه إلى حوالي 80 مليار دولار بحلول عام 2030.
ومن الأمثلة على المعادن التي لم تستغل في المملكة، "الرمال" التي يمكن استخدامها في العديد من الصناعات مثل: صناعة الزجاج وصناعة رقائق الحاسوب والألواح الشمسية التي تعتبر من القطاعات الحيوية التي توفر فرصاً كبيرة لتعزيز الاقتصاد غير النفطي. وسوف تسهم هذه الصناعات في رفع نسبة الصادرات غير النفطية وجذب الاستثمارات. كما يمكن استخدام الرمال كمصدر لإعادة التصنيع والتصدير، مما يساعد في إنتاج مواد تدعم نمو الاقتصاد غير النفطي.
وتتمثل الفرص الأخرى في تعزيز القطاع الخاص من خلال استراتيجية إحلال الواردات، حيث تقدر قيمة الواردات من حجم الناتج المحلي الإجمالي حوالي 19% خلال عام 2024 حيث لدينا مجموعة واسعة من المنتجات المستوردة يمكن توطينها. وذلك يوجد لدينا إمكانيات كبيرة لتطوير صناعات محلية من خلال استراتيجية تعزيز الصادرات وتوطين الواردات، بالإضافة إلى البحث والابتكار، مما سيسهم في نمو الاقتصاد غير النفطي.
ومن المهم أن نلاحظ أن قطاع الصناعات يعد من القطاعات الحيوية التي يعتمد عليها في كافة الأوقات، ويفضل أن يحتل المرتبة الثانية بعد القطاع النفطي. كما أن القطاعات الخدمية تُعتبر من المجالات الواعدة، حيث لديها الإمكانية لتحقيق نسبة عالية من التوطين وتساهم بشكل فعّال في تعزيز الاقتصاد غير النفطي.
بينما في الجانب الآخر تتطلب بعض القطاعات الاقتصادية في المملكة إلى إعادة هيكلة، مثل قطاعي تجارة الجملة، والتجزئة، وقطاع التشييد، والبناء. ومن الضروري إجراء مراجعة دقيقة لهذه القطاعات ودراسة معطياتها، حيث إنها تعتمد بصورة كبيرة على العمالة غير السعودية وغير المتعلمة. بالإضافة إلى ذلك تعاني هذه القطاعات من "النمو الذاتي" وذلك لأنها مرتبطة نموها بالإنفاق الحكومي فإذا أنفقت الحكومة على المشاريع تنتعش هذه القطاعات وإذا انخفض الإنفاق الحكومي تنكمش قطاعات مثل: قطاع التشييد والبناء وغيرها من القطاعات. ويتعين علينا إعادة هيكلتها لتتوافق مع طموحات رؤية 2030، ولهذا يستدعي رؤية جديدة تضمن استدامتها وتطورها.
وعند إجراء المقارنة، يتبيّن أن الاقتصاد السعودي في الأعوام الماضية اعتمد أساسيًّا على القطاع النفطي، الذي يُعتبر المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي وأساساً لازدهار القطاع الخاص. لذلك، أُطلقت رؤية المملكة 2030 بهدف تنويع الاقتصاد وتعزيز حصة القطاع الخاص ورفع مساهمة الأنشطة غير النفطية، وتقليل ارتباطه بالإنفاق الحكومي المتأثر بالنفط، وفي نهاية عام 2024 بلغت مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلي الإجمالي نحو 49% مع هدف طموح للوصول إلى 65% بحلول عام 2030، وقد شهد القطاع الخاص خلال الأعوام الثمان الماضية نمواً ملحوظاً بنسبة 49% ليصل حجمه إلى 2.3 تريليون ريال بنهاية عام 2024.
رسم بياني يوضح تطور الأنشطة غير النفطية بالمملكة العربية السعودية خلال الفترة (2016 -2024)
تسعى رؤية المملكة 2030 لرفع مساهمة القطاع غير النفطي في الاقتصاد إلى ما يزيد عن 75%، وتعزيز دور القطاع الخاص ليشكل 65% من الناتج المحلي الإجمالي. وتُراهن الرؤية برؤية عميقة وبُعد نظر، على أن القطاع الخاص سيكون المحرك الرئيسي لنمو الاقتصاد في المستقبل. ومن هذا المنطلق، تبرز الحاجة الملحّة لإعادة هيكلة بعض القطاعات الاقتصادية الخاصة، لتمكينها من قيادة مسار النمو المستدام.
ويوضح الرسم البياني الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للأنشطة غير النفطية نمواً ملحوظاً خلال الفترة من عام 2016 إلى عام 2024، حيث بلغ متوسط النمو نحو 5.1%. ويُعد هذا الأداء الاقتصادي متميزاً في ظل التحديات التي واجهها الاقتصاد العالمي، والتقلبات التي طرأت على أسعار الطاقة، إلى جانب التحولات الهيكلية التي تشهدها المملكة. ورغم هذا النمو الإيجابي، لا تزال هناك فرص واعدة لرفع متوسط النمو، وذلك من خلال المعالجة الدقيقة وإعادة هيكلة بعض القطاعات الاقتصادية الحيوية، وسنتناول أبرز هذه القطاعات في هذا المقال.
الجدول أدناه يوضح نسبة نمو قطاعات الناتج المحلي غير النفطي خلال الفترة ما بين عام 2016 و2024 ونسب توظيف السعوديين وغير السعوديين في هذه القطاعات.
جدول: مقارنة قطاعات الناتج المحلي غير النفطي (2016 -2024)
يتضح من الجدول أعلاه أن قطاع خدمات المال والتأمين والعقارات وخدمات الأعمال في أوج ازدهاره، حيث نما بنسبة 57%، وهو نفس معدل النمو الذي شهدته الخدمات الاجتماعية والشخصية خلال هذه الفترة.
وشهد قطاع الزراعة والأسماك نمواً ملحوظاً بنسبة تقارب 55% خلال الفترة من 2016 حتى 2024، بينما حقق قطاع التعدين (لا يشمل النفط) نمواً بنسبة 50%. كما نما قطاع التشييد والبناء بنسبة 42%. وفي الوقت نفسه حقق قطاع تجارة الجملة والتجزئة والمطاعم والفنادق نمواً بنحو 47% خلال فترة الرؤية. أما قطاع الكهرباء والغاز والماء، فقد سجل نمواً بمعدل 33%. ويعتبر قطاع النقل والتخزين والاتصالات الأقل نمواً، حيث حقق زيادة بنسبة 31%، ويعود سبب هذا الانخفاض إلى عدم جاهزية البنية التحتية لهذا القطاع، مما يجعله أقل تنافسية. ورغم ذلك، يمتلك هذا القطاع فرصة كبيرة للنمو، حيث تقدر قيمة التجارة البحرية على البحر الأحمر بنحو 10 تريليون ريال، ومن المتوقع أن يشهد نمواً ملحوظاً بعد اكتمال مشروع الجسر البري بإذن الله تعالى.
مما سبق يتضح أن هناك المزيد من الحاجة لدراسة وتحليل هذه القطاعات والكشف عن التحديات والفرص التي تميز كل قطاع، بالإضافة إلى تحديد أسباب ضعف النمو والمعوقات المتعلقة بنسبة السعودة. على سبيل المثال قطاع الزراعة، نجد أن نسبة السعوديين منخفضة جدًا، مما يتطلب القيام بدراسة شاملة لأسباب انخفاض هذه النسبة والموارد اللازمة لتطوير هذا القطاع وزيادة حجمه.
وفي المقابل وصل إجمالي عدد العاملين في القطاع الخاص إلى ما يقارب 11.8 مليون شخص، حيث يمثل السعوديون نحو 20% من هذه القوة العاملة، ونجد أن خدمات المال والتأمين تُعتبر الأعلى نسبة سعودة من بين القطاعات الاقتصادية، حيث تصل إلى 83%. وفي مجال التعدين تصل إلى 56%. أما في قطاع الخدمات الاجتماعية والشخصية، فتُقدّر بنحو 51% بينما تبلغ في تجارة الجملة والتجزئة حوالي 23%. كما تُقدّر نسبة السعوديين في قطاع النقل والتخزين حوالي 20%، وفي قطاع التشييد تصل إلى 13%، وفي القطاع الزراعي، تمثل حصة السعوديين نحو 10%.
وفي الختام، يسعى هذا المقال إلى إلقاء الضوء على القطاعات الحيوية الواعدة التي تؤدي دوراً بارزاً في الاقتصاد الوطني، فضلاً عن تحديد الأنشطة التي تتيح فرص العمل للمواطنين السعوديين ونسب تواجدهم فيها. ومن المعلوم أن هناك قطاعات نشطة تتمتع بجاذبية عالية للكوادر الوطنية وتساهم في تنويع القاعدة الإنتاجية، مثل قطاع التعدين، الصناعة، التأمين والمالية. بينما تبرز قطاعات أخرى بحاجة ماسة إلى إعادة هيكلتها لتتوافق مع تطلعات رؤية المملكة 2030.
المقال منشور في مجلة جمعية الاقتصاد السعودية عدد يونيو 2025