حتى فترة قريبة كان عدد من البنوك يفوّض موظفين بصرف العملات، وعدد من الإجراءات المصرفية، ثم استعاض عنهم بتطبيقات وأجهزة صرف تقوم بتلك المهام بدقة وسرعة، وتستلم مهام جديدة كل فترة أيضا، وكانت إحدى مؤسسات ترخيص السيارات والنقل توظف عشرات الموظفين للقيام بتجديد وإصدار تلك التراخيص السنوية، ثم طورت تطبيقا على الانترنت وجلبت جهازاً يتلقى متطلبات الترخيص الكترونيا ويقبل المدفوعات ويصدر شهادة الترخيص الجديدة بدقيقة واحدة.
وظائف هؤلاء أصبحت في مهب الريح، فلا داعي لصرف رواتب لهم ولا متابعة أدائهم ولا الاستماع لمشاكلهم.
هذه نماذج للتحوّلات الجذرية التي تحصل في الوظائف في هذه السنوات والتي ستتزايد بشكل مؤكد خلال السنوات القادمة.
لم تعد منظومات التدريب والتعليم الروتينية للحصول على الوظائف "التقليدية" تجدي كثيرا، وبعد فترة ربما ليست طويلة، ستنعدم جدواها كليا.
تأتي التقنية الحديثة لتقوم بأعمال سريعة ومتعددة الجوانب ودقيقة يقوم بها موظف واحد او عدة موظفين، وبشكل أدق وأقل كلفة وأسرع، وبدون تبعات مذكورة، بل تتلافى عيوب الموظفين وتأخرهم وضعف أدائهم وإشكالاتهم التاريخية مع المراجعين.
وتبيّن هذه التحولات بشكل جلي أن عدم مواكبتها والتأقلم معها من جميع مناحيها قد يؤدي إلى تعميق الإشكالات المتعلقة بالبطالة والتشغيل، لذلك كانت هذه التحوّلات خطيرة لاسيما على مهمليها أو غير الآبهين بها، لأن إذكاء سوق العمل بمشتغلين غير مؤهلين سيؤدي حتما إلى رفضهم أو ارتفاع تكلفة إعادة تأهيلهم، أو في المقابل تعطيل المؤهلين بسبب جمود سوق العمل.
ومن الطبيعي أن يتعلم الجميع استخدام التطبيقات الحديثة والتقنيات المتطورة، لكن ابتكارها واختراع المزيد منها، وتعلّم تفاصيلها وتطويرها وصيانتها هو المطلوب.
ويتعلق الأمر أولا بالتعليم ومخرجاته والتي تحتاج إلى تطوير جذري سريع في سلسلة التعليم السنوي للطالب كاملة، بتزويدها بالعلوم الحديثة والتقنية، وتعميق مواد الرياضيات والفيزياء، وإحياء البحث العلمي والتطبيقات العملية، ثم إيجاد آلية مرنة لتطوير التعليم بشكل سلس غير مركزي لمواكبة التطورات المتسارعة دون انتظار أو تأخر أو روتين.
ولم تعد إشكالية التعليم في المعلومة التي أصبحت متوفرة بشكل هائل وبالغ السهولة بعد أن كانت تنتظر الطباعة والتوزيع، بل بطريقة تنظيم وتوصيل تلك المعلومة والاستفادة منها وتطبيقها وتطوير نتائج أبحاثها.
ويؤكد أهمية هذا الأمر انحسار الوظائف التقليدية المبنية على منهج علمي وإداري قديم، واتجاهها إلى الوظائف التقنية، فتلك التطبيقات الحديثة والأجهزة والروبوتات بحاجة إلى مهندسين وعمالة ماهرة لصناعتها وتشغيلها وصيانتها وتطويرها وابتكار غيرها، وتلك المؤسسات والشركات لم تعد بحاجة إلى موظفين بمهام تم تطويرها تقنيا.
فالعملية تتلخص بنقل توجهات الطلاب من قطاعات آفلة إلى قطاعات واعدة.
في جانب آخر تكمن خطورة التحولات في امتناع الجهاز الإداري والتنفيذي عن مجاراة التقنية لأسباب عدة، يتجلى أبرزها في القطاع العام لدى الكثير من الدول التي تحرص على توظيف عدد ضخم في أجهزة الدولة وبأضعاف حاجتها من الموظفين بهدف استيعاب أكبر قدر من الخريجين والمواطنين وتشغيلهم والحد من البطالة، حيث تكوّنت أجهزة إدارية بيروقراطية هائلة مترهلة.
قد تحارب بعض تلك الإدارات التقنية، وتصرّ على البقاء على النمط الإداري القديم، وهذا تفسير التناقض الحاصل في بعض الأماكن حين نجد مؤسسات تتبنى احدث التقنيات وقد تبالغ فيها أيضا، ومؤسسات أخرى لازالت في عهدة نمط إداري قديم، ويتعمق هذا التناقض في ترابط تلك الأجهزة.
ويفرز هذا الجمود الإداري ضعفا في النمو الاقتصادي والتطور والرفاه والنزاهة والشفافية، ويعمّق الروتين، ويعطّل استقطاب استثمارات جديدة سواء خارجية او حتى محلية كانت من الممكن أن تولّد وظائف كثيرة وتخفف البطالة.
وغالبا لن يقوم أي قطاع عام بعملية تسريح واسعة النطاق وفجائية لاعتماده التقنية والذكاء الصناعي، لكن من المؤكد أنه لن يشغل جيشا من الموظفين التقليديين مرة أخرى، وهنا يحصل التحوّل وتتجلى خطورته في عدم وجود وظائف لغير المؤهلين والمدربين بأنماط التدريب الحديث والعلوم المستجدة، أو في المقابل عدم وجود وظائف للمؤهلين بجدارة بسبب تخلف الجهاز الإداري المؤسسات الإنتاجية، لتتزايد تحديات البطالة وإشكالاتها أمام صانع القرار في تلك الأحوال.
وسيفرز الإبقاء على الوضع السابق تحديات وصداما بين جيل صاعد تحيط به التطورات التقنية من كل جانب ويعتقد أن الفرص تكمن فيها وجيل سابق لا يواكبها، وقد تستغرق عملية التحوّل هذه سنوات ثم ينصاع لها الجميع، لكن مرحلة التحوّل بحد ذاتها ترسم صورة المخاطر المحدقة بالوظائف القديمة التي يجب الاستغناء عنها، والجديدة التي تجد عائقا أمام فرصها وتسلمها مهامها.
لقد أصبحت التقنية المتطورة أحد أهم محاور النمو الاقتصادي والرفاه الاجتماعي، وعدم مسايرتها ولو بدون قصد أو لأهداف قصيرة المدى أو قصيرة النظر، ضرر كبير على الاقتصاد والمجتمع.
خاص_الفابيتا
تظل الوظائف المهنية والحرفية محتفظة بمكانتها ولكن للأسف غالبية شبابنا ينفرون منها.