على عكس المأمول منها لدى بعض صلحاء البيروقراطيين، تُثمر البيروقراطية في كثير من الأحيان فسادا إداريا شاؤوا أم أبوا، بل وتتحول لحاضنة مثالية له وعائقا أمام النزاهة والشفافية.
عندما تتعدد الدهاليز الإدارية والمتاهات الروتينية يجد الفساد أركانا وزوايا ليثبت أقدامه فيها، بعيدا عن أعين الرقابة أو ملاحظة مختصي المتابعة، فهذه التشعبات المتجذرة في الجسم الإداري تهيء جوا مناسبا للفساد، ومن طبيعة التشعب التعقيد، والملفت في البيروقراطيين أنهم يفهمون القوانين على أنها مطبات وحواجز وعُقد في وجه المصالح وليست تشريعات تنظيمية محفّزة.
وفي طريق روتيني طويل أمام معاملة اعتيادية، تجد هذه المعاملة محطات فساد تقترح عليها اختزال هذه الإجراءات المملة والمعقدة بمقابل، أو ربما تعيق سير المعاملة في سبيل الرشوة.
ولأن البيروقراطية تتطلب كمّا كبيرا من الموظفين، يجد غير المؤهلين طريقا لهم لبعض الوظائف والمناصب عبر ترشيحات من موظفين آخرين لصلة ما تربطهم، أو واسطات، أو ضعف القدرة على الاختيار، ويتم قبول هؤلاء أمام الحاجة لمستويات إدارية قد لا تلبيها مخرجات التعليم نظرا لعجزها عن تلبية ما يحتاجه البيروقراطيون، وهنا يتراكم ضعف التأهيل والخبرات مع الروتين والعوائق لتشكل جهازا إداريا بائسا، لايواكب تطلعات الاقتصاد والمجتمع.
ولأن البيروقراطية والروتين متلازمان، ويجابهان التطوير والنمو، يصبح القفز من فوق البيروقراطية واتمام المشاريع أو المصالح أو المعاملات أمرا قد لايكون ممكنا بدون الفساد، والذي سيكون مصيدة بديلة عن مصيدة البيروقراطية، وجسرا من فوقها يتخطاها، بحيث يلبي رغبات الطرف الآخر على عكس البيروقراطية.
واللافت في البيروقراطية والبيروقراطيين صناعة جهاز إداري مترهل، أو مصاب بالشلل، لأن تطويره يحتاج كفاءات، والكفاءات لا سبيل لها في هذا الجهاز للوصول إلى الإدارة والتحكم في القرار وتطوير العمل، فهي إما تحت قيادات بيرقراطية غير كفؤة تمنعها من الصعود وتخاف منها وتخشاها، أو أنها تعمل في غير اختصاصها، أو تجاري الوضع لعلمها بصعوبة حله، كما يحتاج تطوير الجهاز جهدا فرديا وجماعيا، وهذا لايتناسب مع الكسل والتثبيط وهما من صفات البيرقراطيين.
كما تفرض شبكة الإدارة المتشعبة "الواسطة" على الواقع الإداري، لأن اجتياز بعض الحواجز غير ممكن دون دفع من أحد، وكلما كثرت الحواجز ومسبباتها زادت احتماليات وجود الواسطة (والرشوة أيضا)، ويتأكد ذلك إذا كانت تلك الحواجز غير مبررة أو مُختلقة بفعل صلاحيات الموظف، أو عدم أهليته وفهمه لوظيفته او للقانون الذي يحكمها، وكلما زاد كمّ الموظفين لاسيما من غير المؤهلين، زادت أيضا احتماليات الواسطة.
والناس ليسو سواء وكأسنان المشط، فالوازع الديني او الأخلاقي أو الوطني لن يكون حاضرا لدى كم هائل من الموظفين وبقدر عالي المستوى أو متساوي، ليمنعهم من الفساد، وأمام هذه الحقيقة يصبح التطوير الإداري والتخلي عن البيروقراطية أهم محطات مكافحة الفساد.
ومن الطبيعي أن التطوير الإداري والشفافية والقضاء على الفساد ومحاربته سيثمر نشاطا اقتصاديا يستوعب جيش الموظفين الذين كان البيروقراطيون يطمحون ويباهون بتوظيفهم (حتى وإن كانت إنتاجيتهم صفر!!)، وربما يستوعب الاقتصاد بعد ذلك أضعافهم أيضا وبدون واسطة، وستصبح إنتاجيتهم أفضل بعد أن كانت قريبة من الصفر أو صفرا أو ربما سالبة في البيئة البيروقراطية.
وفي الجهاز الإداري البيروقراطي ستلاحق الرقابة قضايا الفساد وتكتشف وتعاقب وستردع البعض، لكن من شبه المؤكد أنها لن تقضي على هذه الظاهرة، ولن تستطيع القضاء عليها، فالرقابة لن تقوم مقام التطوير الإداري، ولن تستطيع ملاحقة الفساد في كل تشعباته وإلى ما لانهاية.
وليس الفساد الإداري هو الرشوة فقط، أو الواسطة لتمرير أمر باطل، بل هناك أوجه عديدة له، منها تعطيل المصالح والمعاملات، وتحكيم الهوى بدلا من القانون وروحه، وعدم التطور والتطوير، والغياب، والإهمال ومراكمة الأعمال، وغير ذلك، وهي أوجه نجدها في البيروقراطية.
يحارب الكثير من البيروقراطيين التطوير، والمثير أن التطوير الإداري أصبح مدا فكريا وأمرا محتوما أمام ثورة الاتصالات والمعلومات وسرعتها، فيسعى من يجابهه وجها لوجه لتكييفه حسب مقاسات فهمه وروتينه، لا للتكيف معه ومجاراته وتطوير الذات والعمل بما يتناسب معه.
في مقال سابق لي بعنوان "محيط العطلنطي" .. في نقد البيروقراطية ، ذكرت أن البيروقراطية في الأصل تعني حكم أو سلطة المكتب أو المكاتب، وهي مدرسة إدارية عريقة، تعتمد على التوثيق، وتنم عن تطور فكري وعملي في علم الإدارة ووظائفه، لاسيما الإدارة العامة، لكنها بشكلها النمطي والتقليدي وتشعبها أصبحت في عصرنا عبئا على الاقتصاد والمجتمع لاسيما في حالات ترهلها، ولحسن حظ الإدارة وسوء حظ البيروقراطيين، أن التوثيق الالكتروني أصبح في غاية التطور مما يعني اختزال فكرة ومحور رئيسي للبيروقراطية بسبل يسيرة متاحة، والتوثيق أداة فعالة في محاربة الفساد أيضا.