لجأت العديد من البلدان تحت ضغط الأزمة والركود إلى تخفيض سعر الفائدة على المدخرات لأقل من الصفر في أوربا وسويسرا واليابان، بحيث باتت المدخرات في البنوك تتعرض للتأكل، وينطبق ذلك على العديد من الدول التي تقدم فوائد إسمية أقل من معدلات التضخم كما في الهند والباكستان ومصر وبعض دول الخليج وغيرها من البلدان التي تعاني من ارتفاع متوال في الاسعار، كما ان المدخرات ايضا قد تتأكل والتي تكون في صورة نقدية أو ورقية أيضاً بفعل الزكاة على الأموال التي يحول عليها الحول وذلك في المجتمعات الإسلامية.
فالاتحاد الأوروبي يسير في خطة «التيسير الكمي» المعلنة منذ بداية آذار (مارس) الماضي لضخ ما يزيد على تريليون يورو حتى أيلول (سبتمبر) 2016، وانتهت أميركا للتو من التحفيز النقدي، واليابان على وشك الانتهاء من ذلك، فيما يخص الدول المتقدمة مع خطة التيسير الكمي، فأسعار الفائدة تراوح حول الصفر، ففي أميركا تبلغ ربع في المئة، وفي بريطانيا نصف، ووصلت في الاتحاد الأوروبي إلى 0.15 في المئة فقط بعدما خفضت الفائدة من 0.25، أما في اليابان فإن معدلها يبلغ صفر تقريباً.
وبالتأكيد، فإن تلك كل التخفيضات، وكل كميات الحقن المالي التريليونية كان يقصد بها استعادة الاقتصادات لنموها الذي كانت تحققه قبل الأزمة المالية العالمية، أي قبل 2008. وعلى رغم التحسن الطفيف هنا وهناك لبعض المؤشرات مثل النمو ومعدل التوظيف، إلا أن الاقتصاد العالمى مازال في دائرة الركود الاقتصادي.
وعلى ذلك يمكن القول أن اداة سعر الفائدة كأداة من أدوات السياسة النقدية أصبحت أداة غير فعاله للتحكم في كمية النقود والطلب عليها، والمعروض من النقود وإصداره من قبل البنوك المركزية والتي أفرط عدد منها في طبع كميات كبيرة دون غطاء.
ونظرياً فقد فشل الاقتصاديون الأوائل مثل ادم سميث وريكاردو في الوصول الي الطريقة التي يتحدد بها عائد رأس المال، فقد كان أول من وضع أساساً لنظرية رأس المال هو العالم سنيور ويتخلص جوهر نظريته في أن تكوين رأس المال يتطلب تأجيل الاستهلاك الحاضر حتي يمكن تخليص بعض الموارد التي كانت مخصصة لإنتاج السلع الاستهلاكية وتوجيهها لأدوات رأسمالية، ومن ثم فإن تكوين رأس المال يتطلب الحرمان لفترة من الوقت، ومن طبيعة الإنسان أنه يفضل الاستهلاك الحاضر علي الاستهلاك الآجل إلا إذا أمكن إغراؤه علي تأجيل هذا الاستهلاك، وذلك عن طريق تعويضه فيكون الاستهلاك الآجل أكبر من الحاضر، كما يعد سعر الفائدة في نظرية سنيور مكافأة تدفع لصاحب رأس المال نظير حرمان يعانيه أمام الطلب على رأس المال فيتوقف علي إنتاجيته مثل اي عنصر من عناصر الانتاج الأخرى كالعمل والأرض والتنظيم، وأن سعر الفائدة يتحدد بعرض رأس المال والطلب عليه، وعلى الرغم من الاعتراضات على هذه النظرية إلا إنها كانت الأساس الذي تقوم عليه سعر الفائدة كمكافأة للمدخرات وتكلفة للاقتراض.
وأمام الفوائد السلبية بشقيها الاسمي والحقيقي بعد أخد معدلات التضخم في الاعتبار باتت البنوك المركزية غير قادرة علي القيام بوظيفتها الأساسية في تشجيع الادخار، وتعزيز الوساطة المالية وبدلا من ذلك فإن البنوك تعاقب المدخرين بالأخذ من أموالهم في مقابل تشجيع المقترضين للحصول عليها دون فوائد أو تكلفة أملاً منها للفكاك من براثن الركود والعودة للنمو الذي غالباً لم يتحقق، إلى أن تحولت الأموال إلى بورصات المضاربة لتحقيق المكاسب بدلاً من أن توجه إلى الإنتاج والتنمية الحقيقية، فهل تبحث البنوك المركزية والنظم المالية العالمية عن أدوات أكثر اتساقاً غير الفوائد التي أصبحت بلا فعالية عملياً ونظرياً في آن واحد؟.
كما أن الأموال المدخرة في البنوك أياً كانت صورتها سواء حسابات جارية أو حتى ودائع معرضة إلى تناقص قيمتها، ففي بعض الحالات تفرض تلك البنوك رسوماً معينة على هذه الحسابات تؤدي في النهاية إلى تناقص المبالغ المودعة تدريجياً لدرجة أن يصبح العميل مديناً لهذا المصرف بعد أن كان دائناً له في بداية التعاقد، أو تتناقص قيمة الأموال بفعل آثار التضخم السلبية التي تؤدي إلى قلة القيمة الشرائية للنقود.
وينتظر العالم حالياً قرار رفع الفائدة وتحريكه عن الصفر من قبل البنك الفيدرالي الأمريكي والذى يوجد اثاراً محمومة سواء على البورصات العالمية او على توقع مزيد من ارتفاع سعر صرف الدولار الأمريكي أمام بقية العملات في العالم على الرغم من أن التوقعات تشير إلى محدودية هذا التحريك بحيث ترتفع معدلات الفائدة الأمريكية بنسبة ربع إلى نصف في المائة، حيث تشهد الأسواق الناشئة والأسواق الأوربية والصين وغيرها من البلدان ضغوطا حادة على العملة، وفي حالات عديدة أخرى وكما في هذه الحالة، يصبح تشديد السياسة النقدية بصفة عامه للدفاع عن العملة وما تتعرض له من ضغوط شديدة، أداة في يد صانع السياسة النقدة حيث يؤدى ارتفاع أسعار الفائدة إلى زيادة العائد الإسمي للمستثمرين من الأصول المقومة بالعملة ويجعل عمليات المضاربة أكثر تكلفة بسبب زيادة تكلفة بيع العملة.
وتميل السياسة النقدية المتشددة الى مساندة سعر الصرف أيضاً عن طريق الحد من توقعات حدوث التضخم ومن ثم انخفاض سعر العملة في المستقبل، وعن طريق خفض الطلب المحلى وتحسين الحساب الجاري، كذلك تؤدى الاستجابة المتأنية إزاء الضغوط على العملة والحد من مخاطر الإعسار للمقيمين المحليين المقترضين بعملة أجنبية.
ولا يعنى ذلك أن التشدد النقدي كرد فعل للضغوط على العملة ليست له مساوئ أو جوانب قصور فالسياسات النقدية المتشددة تزيد من عبء الدين بالنسبة للمقترضين بالعملة الأجنبية، مما قد يحدث ضغوطاً باتجاه خفض سعر الصرف عندما يشعر المستثمرين بزيادة المخاطر الائتمانية، ومن ثم ارتفاع علاوة المخاطر على العملة نفسها، كذلك تجدر ملاحظة أن سياسات أسعار الفائدة المرتفعة لها انعكاسات توزيعية لأنها تؤدى إلى إعادة التوزيع من المدينين المحليين إلى الدائنين المحلين بالنسبة للديون المقومة بالعملة المحلية.
فعلى الرغم من هذه المحاذير، فإنه خلال أي أزمة عملة عندما تكون الأولوية القصوى هي ضمان استقرار الاقتصاد الكلي ومنع حدوث فقدان شامل للثقة، نجد أن اتخاذ موقف نقدي يوضح عزم السلطات على تحقيق الانضباط المالي هو أمر لا يمكن تجنبه، وهو في العادة أقل تكلفة من حيث الناتج الضائع.
وعلى النقيض من السياسة الأمريكية الساعية لرفع سعر الفائدة يعلن حاكم مصرف كندا المركزي ستيفن بولوتز أمس إمكانية إقدام المصرف على تخفيض معدل الفائدة الأساسي إلى ما دون صفر في المائة إذا ما واجهت كندا أزمة اقتصادية رئيسية مشابهة لأزمة عام 2008.
ويبدو أن صناع الساسية النقدية في حيرة من أمرهم وعليهم الاختيار بين تخفيض معدلات الفوائد وسياسة التيسير الكمي لتحريك الشاط الاقتصادي، أو رفع الفوائد دفاعاً عن استقرار عملاتهم أمام الدولار الأمريكي.
فعلى الرغم من الانخفاض الواضح للدولار الكندي اما الدولار الأمريكي إلا أن توقعات الركود تدفع ستيفن بولوتز إلى تخفيض سعر الفائدة إلى أقل من الصفر، مما قد يقلل من موثوقية سعر الفائدة في دفع النشاط الاقتصادي للأمام فبعد دقائق على صدور كلام بولوتز في خطاب ألقاه في منتدى "امباير كلوب" في تورونتو قام موقع "زيرو هيدج" المالي في وول ستريت، شارع المال والبورصة في نيويورك، بنشر مقال بعنوان "كندا حذّرت للتو من أن معدلات الفائدة السلبية قادمة". كما قالت فاينانشال تايمز" (Financial Times) الاقتصادية " ان مصرف كندا مستعد للذهاب إلى ما أبعد من سياسة معدل الفائدة صفر (ZIRP)".
يُشار هنا إلى أن حاكم مصرف كندا المركزي ودول مثل سويسرا والسويد قد لجأت إلى اعتماد معدلات الفائدة السلبية للحؤول دون قيام الأجانب برفع سعر عملتها فإنه من غير الواضح أن تخفيض الفائدة إلى هذه المستويات الدنيا له أثر مفيد على الاقتصاد الفعلي.
وتعكس هذه الحيرة التي ضربنا مثالاً لها في تصريحات حاكم مصرف كندا مدى حيرة صناع السياسة النقدية في العالم أمام ضعف قدرة الساسية النقدية على معالجة الأزمات حيث تعتبر العوامل النقدية الخالصة بمثابة أعراض للدورة الاقتصادية لأنه في غمرة الكساد، وعندما نهدف جميعا إلى أن تكون السياسة النقدية ذات أثر فعال للتخفيف من حدة الكساد، ومع احتمال أن تكون البنوك التجارية متهيئة لشراء الاستثمارات الجديدة والتوسع في منح القروض الاستهلاكية وقروض قصيرة الأجل من الصعوبة اقناع المستثمرين ورجال الأعمال بضخ استثمارات محفوفة بمزيد من المخاطر. فإذا كان أصحاب الأعمال لا يستثمرون بالشكل الكافي في ظل الفوائد المتدنية حالياً، فمن غير المرجح أن تدفعهم فوائد أدنى بقليل إلى الاستدانة.
وتؤكد الدراسات الواقعية لسلوك رجال الأعمال بأن مستوى سعر الفائدة ليس عاملاً هاماً في اتخاذ القررات الخاصة بنشاطهم الاستثمارية، إذ أنه في أوقات الكساد بصفة خاصة وعدما تصبح الطاقة الانتاجية فائضة فمن المحتمل أن يكون الاستثمار قليل المرونة لسعر الفائدة بمعنى أن الاستثمار لا يستجيب بسهولة لانخفاض هذا السعر.
إذا يستطيع البنك المركزي ان يفرض السيولة فرضا على النطام الاقتصادي وإن كان عن طريق سياسة التيسير الكمي أو طبع النقود، ومع ذلك فهو يعجز في كثير من الأحيان أن يجعل النقود تتداول في مقابل السلع الجديدة والاستثمارات الجديدة.
ولهذا فإننا نولى أهمية كبيرة للسياسة المالية الإيجابية في أوقات الركود فهي تعمل على الحد من عنف التقلبات الدورية، والمقصود بالسياسة المالية الإيجابية إنها طريقة لإعداد الضرائب العامة بحيث تعمل على التخفيف من حدة تقلبات الدورة الاقتصادية، وقد أظهرت سنوات الحرب العالمية الثانية والأزمة المالية الأخيرة أن سلاح المالية العامة سلاح قوى في معظم البلدان التي لجأت الى خطط انقاذ للاقتصاد الحقيقي فما من دولة تفشى فيها مرض وبائي ووقفت مكتوفة اليدين ليفتك بها هذا المرض، كذلك ما أن تتفشى علة اقتصادية أو تتجلي أزمة مالية في دولة حتى تلقى السياسة المالية لتلعب دوراً حاسماً في الحد من الأزمات، وليس ذلك من حيلة سوى أن تدفع السياسة المالية في اتجاهات اقتصادية سليمة مع الحفاظ على المال العام.
فعندما يتأزم الاستثمار والاستهلاك تلتزم الحكومة بأن تعوض ذلك برفع مستوى مصروفاتها المؤجلة من قبل وأن تقلل من جباية ضرائبها، وعلى ذلك تحتاج الحكومات إلى ضخ استثمارات استثنائية في مجال تطوير البنية التحتية وضخ استثمارات جديدة تدفع النشاط الاقتصادي للنمو من قبل القطاعين العام والخاص لتنفيذ مشروعات التنمية في مجال الطرق والصرف الصحي والخدمات المساندة لنمو القطاع الخاص.
وعلى الجانب الآخر نجد دولاً تعطى أهمية أكبر للسياسة المالية التوسعية، فخلال هذا الأسبوع وافق الحزب الحاكم في اليابان يوم الخميس على خطة لخفض ضريبة الشركات إلى أقل من 30 بالمئة بدءا من إبريل مع خفض آخر في السنة التالية، وحث الشركات على تعزيز الاستثمار، وزيادة الأجور لتحفيز النمو الاقتصادي، ودفعاً لمزيد من الاستهلاك وتخفيفاً لحدة الركود الاقتصادي أعلنت الحكومة الفنلندية عن مقترح حظى بتأييد الفنلنديين بنسبة 69%، بحيث يتلقى مواطني فنلندا في المرحلة الأولى التجريبية قبل دخول مقترح الدخل الأساسي حيز التنفيذ 550 يورو شهرياً، وبعد ذلك سيرتفع المبلغ إلى 800 يورو شهرياً، ويشار هنا إلى أن معدل البطالة في فنلندا ارتفع في شهر أكتوبر الماضي إلى 9.5%، مسجلاً بذلك مستويات قياسية منذ عام 2000، وبالتالي فلا ينبغي أن نغفل أثر المساعدات الاجتماعية والمصروفات التحويلية وزيادة الانفاق على تمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة للخروج من الأزمة والحد من تأثيرها السلبى على الأسر المتضررة والمؤسسات المتعثرة.
شكرا دكتور محمد. مقال رائع.