في عام الرمادة حدث قحط وجفاف في منطقة الحجاز، أهلك الحرث والنسل، وقضى على الأخضر واليابس، وامتد على مدى عام سبعة عشر وأوائل عام ثمانية عشر هجرية، وكانت سنتان قاسيتان في وقعهما على المسلمين وفقرائهم، وكان الخليفة الراشد عمر بن الخطاب حينها يطلب من المسلمين اللجوء إلى الله لرفع البلاء والشدة، ولكنه حين تأمل في واقع الأمة، قرر عدم تطبيق حد السرقة، وفي ذلك يقول الدكتور مصطفى محمود: لقد رفع عمر بن الخطاب حد السرقة في عام الرمادة، ولم يقطع يدًا سرقت لتأكل، وهو في ذلك لم يخالف النص القرآني، وإنما فهمه بعمق رغم قطعية النص ودلالته، وأضاف: إن ما فعله الفاروق عمر كان تفقهًا في الدين، واجتهادًا في روح الشريعة قبل نصها.
ومن استنتاج الدكتور مصطفى محمود يبرز السؤال الحائر وهو: لماذا ابتعدت الأمة الإسلامية عن حقيقة فهم النص بما ينفع ويُحقِّق المصلحة، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها؟ والتفسير لهذا الأمر ينحو أن عوامل كثيرة دخلت في مسيرة أمتنا، ومع ذلك دفعت مسائل الواقع وما يستجد إلى الاجتهاد في النص واقتباس العلم وتعلمه، وإدراك أن العلم لا هوية دينية ولا جنسية ولا أيدلوجية له، لأنه تجربة إنسانية استدعاها فهم الواقع، وهذا ما عزّز من فقه المصلحة لنفع الناس بناء على قاعدة فقهائنا الذهبية التي تقول: حيثما تحقّقت المصلحة ثمة شريعة.
ورغم ما تحقق، فان السؤال الحائر لا يزال معلقًا ويحتاج لإجابة، خاصة بعد أن قطعنا مسافة من زمن الخلافة الراشدة وإلى الآن، وتقدّمت أمم وتأخّرنا، وحيث لا نزال نعاني من "هراء أيدلوجي" يضيع وقت الأمة فيما لا يفيد، ويصنف قوانين العلم بأنها مستوردة وغريبة على خصوصية أمتنا الإسلامية وغربية الهوى، وقد يصفها البعض بأنها لا تصلح للتطبيق في كل بيئة، بينما ذلك قفز على الحقيقة المجردة التي تقول: بأن قوانين الجاذبية لا تختلف حيثما طبقت، فهي تعمل في أي بيئة وبذات الدقة، وينسحب ذلك أيضًا على تجارب الأمم في الاقتصاد، وفي تنمية الصناعات الصغيرة، وفي دعم المبادرات الفردية والصادرات، فهذه تجارب علمية وعملية متى ناسبتنا وعالجت واقعنا كانت ضالتنا.
نحن "أمة اقرأ" أمرنا بما يستدعي منّا السعي بلا ملل لقراءة تجارب غيرنا، والتعلم منها واكتساب المهارات، وخاصة باقتباس التجارب الناجحة ووسائل النهوض بالصناعات الصغيرة، وتنمية المؤسسات المتوسطة التي تكمن أهميتها في أنها في متناول قطاع كبير من المواطنين، وأنها أقرب للنجاح، خاصة وهي تبدو في بعض الأحيان وكأنها تعيش عام (رمادة) خاصًا بها، وهذا ما يستلزم دعمها وتشجيع روح المبادرة بين أصحابها وتوجيهها لتُحقِّق جدوى، وتُجسِّد نجاحًا.