وجوبية فك الارتباط بالدولار الأمريكي

25/06/2011 13
احمد سبح

تتزايد مع الوقت مبررات وضرورات فك ارتباط الجنيه المصري بالدولار الأمريكي، وان كان ذلك ينسحب أيضآ على بقية العملات العربية والتي تتشابه دولها في الظروف والتحديات التي تواجهها سواء الداخلية أو الدولية منها خاصة وأننا نتحدث عن أمر دولي البعد وتبادلي التأثير عبر الحدود ألا وهو الارتباط بعملة دولية خضراء تفقد كل يوم مبررات هيمنتها اما لأسباب تتعلق بتراجع سياسي للولايات المتحدة على الصعيد العالمي أو بتدهور اقتصادي أمريكي يعاني منه المواطن الأمريكي نفسه.

فالولايات المتحدة تقترض يومياً أكثر من ثلاثة مليار دولار حتى وصل دينها إلي ما يقارب 14.9 تريليون دولار ، وهي تقترض هذه المبالغ على شكل سندات تصدرها الحكومة الأمريكية للدول الأجنبية وتعد بفائدة على هذه السندات ولأن فائدة هذه السندات تتزايد فإن الفوائد فقط ستشكل أكثر من 50٪ من الدين العام بعد خمس سنوات تقريبآ ، وهذا يعني أمرين :

أولاً : انخفاض سعر الدولار لسببين:

أ- لأن المعروض منه كثيرحيث قامت وتقوم الحكومة الأمريكية بطبع كميات هائلة من الدولارات لتمويل عمليات الانقاذ التي قامت بها للشركات والمؤسسات الأمريكية وحفز النمو ، صحيح أن كثيرآ من الشركات والمؤسسات العملاقة التي أنقذتها الحكومة الأمريكية استعادت عافيتها وعلى رأسها صناعات السيارات وقامت وتقوم الحكومة الأمريكية الآن ببيع مساهماتها في هذه المؤسسات ، الا أن هذا البيع الرابح لا يعادل كم الضرر الذي تحقق بسبب الطبع الهائل لكميات الدولارات اللازمة لتمويل عمليات الانقاذ .

ب- الحكومة الأمريكية تصدر المزيد من سندات الدين العام والتي تتزايد فوائدها وتنقص قيمها الحقيقية وبالتالي تنقص قيمة الدولار المغطى بهذه السندات، وهذا ما يحصل الآن فالدولار في انخفاض مستمر أمام العملات العالمية الرئيسة .

ثانياً: وصول الولايات المتحدة إلى مرحلة يدرك فيها العالم عجزها عن الوفاء بهذه الديون وبالتالي العزوف عن شراء هذه السندات وأحد ارهاصات ذلك هو ارتفاع سعر الذهب كأحد بوادر العزوف عن السندات والدولارات الأمريكية والإقبال على الذهب من قبل الدول والأفراد وخاصة الصين وان كانت الأخيرة هي واليابان تعلنان دومآ التزامهما وثقتهما في السندات الأمريكية الا أنهما لا يملكان قولآ غير ذلك والا انهارت محافظهما التريليونية حيث تمتلك كلتا الدولتين قرابة 2 تريليون دولار من احتياطياتهما في صورة سندات خزانة أمريكية بمعدلاتت فائدة تحوم حول 2% فقط وهي معدلات بالغة الدونية في حد ذاتها ولاتبرر الخطر الكامن والبالغ في امتلاكها .

وهو ما نجده اليوم مترجمآ في انخفاض التعرض الصيني للدين العام الأمريكي وتقليل مشتريات الصين من موجودات الدين الأمريكي ، والعمل بالطبع وبشكل سري على بيع السندات التي تمتلكها بالفعل وذلك حتى لا تعرض الصين نفسها لخسائر اقتصادية كبيرة خاصة وأنها تمتلك قرابة التريليون دولار من السندات الأمريكية ولكي لا تعرض نفسها لأية محاولات انتقامية أمريكية .

ولا يخفى على احد أنه وبعد ان استحقت الصين بجدارة وعبر رحلة كفاع عظيمة على مدار اثنان وثلاثين عامآ بداتها عام 1979 حتى يومنا هذا من أن تتبوأ المكانة الثانية كأكبر اقتصاد في العالم

فانه تلوح في الأفق ومنذ مدة تصل الى قرابة السنين الخمس نذر منافسات استراتيجية واضحة بين الصين وأمريكا ، وتطل أزمة تايوان برأسها من حين لآخر لكي تلقي بالشرر في هشيم العلاقات الصينية الأمريكية خاصة مع تأكيد الصين بلجوئها الى القوة ان قامت تيوان باعلان استقلالها عن الوطن الصيني الأم ، ناهينا عن المنافسات الاستراتيجية التي تنشب بين القوى العظمى ، بالتالي فانه لن يصبح من منفعة الصين أن تظل على امتلاكها احتياطيات دولية 60% منها على هيئة دولارات أو مدعومة بالدولارات الأمريكية كالسندات وأذون الخزانة ، وبالتالي فانها ستلجأ الى التخلص منها مما يسبب مزيدى من الخسائر للغريم الأمريكي بعد أن تكون الصين قد أمنت نفسها ماليآ وعسكريآ واقتصاديآ وسياسيآ من أية محاولات انتقامية أمريكية .

فان أضفنا الى ذلك أن واقع الثورات الشعبية العربية العظيمة التي تموج بها غالبية مجتمعاتنا العربية اليوم يفرض واقعآ جديدآ من الأنظمة العربية الجديدة الوليدة التي لا تتبع الا ما يحقق مصالح شعوبها لا مصالح حماتها من القوى الغربية التي ثبت عجزها عن حماية الطغاة الذين حكموا بلداننا ، بل ان فشل القوى الغربية التقليدية في مواجهة ثورات الحرية العربية بل وتأييدها في كثير من الأحايين سيدفع حكام الدول العربية التي لم تشهد حتى اليوم أية ثورة حقيقية الى الاتجاه شرقآ نحو الصين وروسيا بعد المواقف ( المشرفة أو المحايدة بالطبع من وجهة نظر هؤلاء الحكام ) .

وهذا يقودنا الى واقع دولي يشهد تطورات كبيرة على كافة الأصعدة والمحاور السياسية والاقتصادية والمالية نحو خفض كبير للوزن النسبي الحقيقي والتأثيري الفاعل لاحتكار القوى الغربية التقليدية لمقدرات الحراك السياسي الدولي ، وسيؤدي حتميآ بدوره إلى انخفاض كبير في قيمة الدولار وبالتالي انهيار كل العملات المرتبطة به كالجنيه المصري وكل الاقتصاديات المرتبطة به كالاقتصاد المصري وهذا أمر مؤكد عند كل الاقتصاديين غير المسيسين وتحذر منه النخب الأمريكية منذ 2001 وحتى الآن .

ومن المؤكد أن الأزمة التي تتعلق بالديون الأوروبية في طريقها الى الحل نتيجة للتعاون الأوروبي المشترك وكذلك لدور فاعل لصندوق النقد الدولي في هذه الأزمة ، فبعيدآ عن التهويلات الاعلامية فانه وبعد نجاح الحكومة اليونانية مؤخرآ في اقتراع الثقة عليها في البرلمان فان ذلك سيعطي دفعة نحو حل هذه الأزمة ، والأهم من كل ذلك فان أزمة الديون الأوروبية ليس لها بعد مالي أو اقتصادي فقط بل بعد استراتيجي وجودي للحياة الأوروبية التي عرفها الأوربيون والعالم منذ توقيع معاهدة ماستريخت التي قدمت للوجود فكرة الاتحاد الأوروبي بكل قيمه وأهدافه وآماله ، ولا يمكن أبدآ للأوروبيون أن يتخلوا عن هذا الحلم لأن البديل هو كرة من الثلج على أعلى المنحدر تأخذ في طريقها القوي قبل الضعيف والكبير قبل الصغير وهذا ما يعيه القادة الأوروبيون جيدآ .

وبالتالي فان اليورو سيغدو من هذه الرحلة المشؤومة والمتعبة أكثر قوة ومنعة مما يعزز من مكانته على المستوى العالمي ويأخذ من نصيب الدولار ، والطريف هنا أن الولايات المتحدة لا تملك الا دعم الاتحاد الأوروبي والا فان النتائج ستكون كارثية على الولايات المتحدة نفسها ، خاصة وأن أغلب تجارتها مع الاتحاد الأوروبي والذي يشاركها في نفس الوقت عضوية حلف الأطلنطي العسكري الذي يقف في مواجهة النفوذ الروسي والصيني والهندي المتصاعد عالميآ ولا تريد الولايات المتحدة أن تقف بكل مشاكلها التى ترهق كاهلها وحيدة في مثل هذه الحلبة .

ناهينا عن الصين التي تتعرض الى حملة دولية بغية حملها على رفع سعر صرف عملتها ازاء العملات العالمية ، ومعززة باحتياطياتها الضخمة ومعدلات نموها الاقتصادي بل والسياسي والعسكري المثيرة للاعجاب ، وبدأت الصين مؤخرآ ومن خلال منتدى شنغهاي الاقتصادي الذي يجمعها هي وروسيا وكازخستان وقيرغستان وطاجيكستان وأوزبكستان اضافة الى الهند وايران ومنغوليا وباكستان كمراقبين وأعضاء محتملين ، بدأت الصين وعبر ممارسات واتفاقات محدودة بالعمل على ترويج اليوان الصيني كعملة للمبادلات الدولية بين دول المنتدى من خلال السماح به كوسيط لتمويل عمليات الاستيراد والتصدير وفتح الاعتمادات بين الحدود ، وهي الأمور التي من شأنها مجتمعة أن تعزز من واقع اليوان الصيني على ساحة العملات العالمية خلال السنوات العشر المقبلة في اطار مباراة صفرية مع الدولار الأمريكي (مكسب طرف خسارة للطرف الآخر) .

مع ارتفاع الوزن النسبي للاقتصادات الجديدة في الاقتصاد العالمي وخاصة الممثلة لتجمع البريك الذي يضم كل من الصين وروسيا والهند والبرازيل وهو ما يأخذ من نصيب السيطرة الغربية على المقدرات العالمية ، واحتلال الصين المركز الأول عالميآ كأكبر سوق لاستهلاك السيارات والنفط ولا زالت أمام هذه الأسوق الكثير والكثير جدآ لكي تصل الى مرحلة الاشباع التي وصلت اليها الأسواق الغربية مما يدعم من النمو والتطور المنتظر لهذه الدول وتأثيرها على الصعيد العالمي .

وبدأت تلوح في الأفق نذر ارتفاع في معدلات التضخم في الولايات المتحدة تغذيها بشدة ارتفاع كبير في اسعار النفط والذي ليس من المتوقع نزوله في المرحلة المقبلة تحت عتبة ال 60 دولارآ وهو السعر الذي يساهم في مساعدة الاقتصاد الأمريكي في أن يحقق معدلات نمو معقولة تستطيع أن تواجه نسب البطالة المرتفعة (الاسمية) والتي تدور حول 9.5 % .

ويوتوافق ذلك مع صعوبة قيام الحكومة الأمريكية برفع أسعار الفائدة حتى لا تكبح وتعطل النمو المكبوح فعليآ خاصة وأن أزمة الرهن العقاري لا زالت تلقي بظلالها السوداء حتى الآن على جيوب الكثير من الأمريكيين الذين أضحت أصولهم العقارية (منازلهم) أقل من قيمة الفوائد وأقساط الرهن التي يدفعونها وسيدفعونها وهو ما حدا بكثيرين منهم الى ارسال مفاتيح منازلهم عبر طرود بريدية تعرف باسم ال(jingle mails) الى البنوك التي قاموا بالاقتراض منها لتمويل رهوناتهم العقارية وكذلك فان رفع أسعار الفائدة الآن سيضعف الجهود المبذولة لمكافحة البطالة ومن ثم تزيد من معدلات البطالة وأعداد العاطلين عن العمل وما يمثله هؤلاء من خسارتين مزدوجتين للاقتصاد الأمريكي فهو من ناحية يُحرم مما يمكن أن يضيفه هؤلاء العاطلين عن العمل من زيادة في الناتج الكلي اضافة الى مساهماتهم الضريبية والتأمينية ، ومن ناحية أخرى فانهم ببطالتهم يفرضون على الاقتصاد تحمل تكلفة معيشتهم الى حد ما عبر اعانات البطالة التي تدفع لهم .

وبالتالي فاننا نجد أنفسنا وخاصة بعد ثورتنا المجيدة وسعينا الى احداث انقلاب نوعي ومنطقي في أسلوب حياتنا ومضامين أهدافنا القومية وتعزيز استقلاليتنا الاقتصادية والحركية الاستراتيجية ، نجد أنفسنا أمام حتمية فك ارتباط الجنيه المصري بالدولار الأمريكي وربط الجنيه المصري بشكل مؤقت بسلة من العملات الدولية تراعي تطورات الأوضاع الاقتصادية والسياسية على المستوى العالمي .

وتكون السلة سرية الى حد ما أي لا يكون معلومآ الوزن النسبي لأية عملة فيها منعآ للمضاربات والتأثير السلبي على الجنيه المصري حال حدوث اضطرابات سياسية أو اقتصادية تتعلق بهذه العملة أو تلك مثلما هو متبع في التجربة الكويتية المتميزة في هذا الخصوص ، وذلك لحين وصول مصر الى المكانة التي تستحقها على الساحة العالمية وبما ينعكس على الوضع والاستقلالية التامة للجنيه المصري فلا تعد هناك حاجة الى ربطه بسلة من العملات خاصة مع تحويل تحصيل ايرادات قناة السويس بالجنيه المصري .

فتحويل تحصيل خدمات المرور والعبور في قناة السويس من الدولار الى الجنيه المصري سينعكس بشكل هائل على قيمة الجنيه المصري ومكانته في السوق العالمية وهو ما يعطي بعدآ آخر أكثر أهمية للدور المصري في العالم ويساهم بشكل كبير في كبح معدلات التضخم خاصة وأن مصر من الدول المستوردة لكافة السلع والخدمات خاصة الغذائية منها .

ويجادل عدد من الاقتصاديين أن رفع سعر الجنيه المصري ليس في صالح الصادرات المصرية ، وهو أمر لو اكتفي بالنظر اليه من الناحية الرياضية لعد أمر سليمآ لأن رفع سعر صرف الجنيه المصري يؤدي الى زيادة تكلفة الصادرات ، ولكن هذه الحجة يمكن الرد عليها عبر محاور ثلاث :

أولآ: ومن الناحية الرياضية أيضآ فانه من الناحية المقابلة فان رفع سعر صرف الجنيه المصري سيؤدي الى خفض أسعار الواردات وبما أن غالبية الصادرات بل والسلع المحلية المصرية التصنيعية هي عبارة عن صناعات تجميعية أو قائمة على استيراد جزء كبير من المواد الخام أو نصف المصنعة من الخارج فان رفع سعر صرف الجنيه سينعكس في انخقاض أسعار الصادرات والمنتجات النهائية المصرية بل ان المصنعين سيلجأون ساعتها الى استيراد مكونات أفضل كانت أسعار الصرف القديمة الضعيفة للجنيه المصري ازاء مختلف العملات العالمية كانت تقف عائقآ أمامهم وبالتالي زيادة جاذبية الصادرات المصرية.

ثانيآ: ان انضمام مصر ومساهمتها في تشكيل تجمعات اقتصادية اقليمية مستغلة لعلاقاتها موضعها الجيواستراتيجي الهائل كمعبر لعوالم مختلفة ومترابطة كحوض البحر المتوسط والعالم الاسلامي والعربي والأفريقي وعلاقات الشراكة الاستراتيجية التي تم توقسعها مع دول الميركسور (التجمع الاقتصادي لدول أمريكا اللاتينية) ، سيعطي مزايا استراتيجية كبيرة لمصر من بينها رفع حجم صادراتها بشكل هائل ومتميز .

ثالثآ: ان ارتفاع أسعار الصرف لم تقف عائقآ أمام دول كثيرة لها حجم صادرات عالمي كألمانيا وفرنسا واليابان ، ومن ناحية أخرى فان انخفاض سعر صرف الجنيه المصري سابقآ لم يكن محفزآ عظيمآ لكي نحقق مستوى متميز من الصادرات نحن فعلآ بعيدين كل البعد عنه ، فلازلنا نجاهد لكي نتجاوز فقط عتبة ال 30 مليار دولار كصادرات سلعية غير بترولية فيما دول أقل من امكانياتنا بمراحل وتعمل على مواصلة نمو صادراتها فوق ال150 مليار دولار كماليزيا وأندونيسا وتركيا ، فالمسألة لا تتعلق بأسعار الصرف لا في المقام الأول ولا الثاني بل بالابتكار والتطوير والتجويد والالتزام والتخطيط الاقتصادي والعمل السياسي الديموقراطي الحقيقي الذي يعلي من قيم العدالة والحرية والاجتهاد ومكافأة المصيب والشريف وعقاب المخطئ والمخادع.