لجمهورية مصر العربية تاريخ ممتد مع أزمات العملة لعل من أشهرها في الالفية الجديدة تدهور قيمة الجنيه في منتصف عام 2001م؛ التي فقد فيها حوالي 71% من قيمته في ذلك الحين. ثم جاءت أحداث عام 2011م لتضع مزيداً من الضغط على الجنيه ليفقد نحو 50% من قيمته، ومع برنامج الإصلاح الاقتصادي في 2016م خفضت الحكومة قيمة الجنيه بنحو 50% أخرى. وأخيراً تزايدت الضغوط على الجنيه المصري عقب الغزو الروسي لأوكرانيا ليفقد الجنيه مرة ثالثة نصف قيمته تقريباً بالسعر الرسمي، ولتعود السوق السوداء للعملة في الظهور وتصل بالتخفيض لنحو 60% من قيمته قبل فبراير 2022م، تفوق النسب السابقة جميعها النسبة المقترحة لانخفاض قيمة العملة الذي يعد بمثابة أزمة سعر صرف، فقد اقترح "فرانكل" Frankel انخفاض العملة بنسبة تزيد عن 25% على مدار سنة كاملة كي يمكن القول أن هناك أزمة عملة. وتشير نظرية أزمات العملة Currency Crises Theory بمراحلها التاريخية الثلاث إلى أسباب عديدة يمكن الاعتماد عليها في تفسير أزمة الجنيه المصري الحالية. حيث تفسر نظريات الجيل الأول تدهور قيمة العملة في عدم توافق التوسع المالي وسياسة عجز الميزانية العامة للدولة مع نظام أسعار الصرف المربوطة. وذلك بالنظر إلى أن سياسات التوسع المالي تؤدي إلي زيادة العجز الخارجي، ومع تطبيق نظام سعر الصرف المربوط فإن تدهور الاحتياطيات الخارجية وحده كفيل بالتنبيه لقرب الأزمة، وهو ما يدفع إلي إشعال المضاربات علي قيمة العملة فتحدث الأزمة.
أما نظريات الجيل الثاني التي ظهرت أوائل التسعينات فقد ركزت على أثر زيادة المعروض النقدي بهدف تحقيق النمو الاقتصادي على تدهورقيمة العملة، فإذا تواكب هذا التوسع مع نظام ربط العملة فان الانهيار حتمي بمجرد فقدان الثقة في الاقتصاد، حيث تنشط المضاربات علي أسعار العملات الأجنبية لتؤدي إلي أزمة العملة، وتركز نظريات الجيل الثالث لأزمات العملة على عدم التوازن بين نمو الديون قصيرة الآجل؛ والمتمثلة في تدفقات المحافظ والأموال الساخنة من ناحية، وحجم الاحتياطيات من العملات الأجنبية من ناحية أخرى؛ كأساس لتفسير المضاربة على أسعار العملات التي غالبا ما تنتهي بأزمات العملة، من الواضح من هذا العرض النظري السريع توفر جميع العوامل التي وردت في النظرية بأجيالها الثلاثة والمؤدية إلى أزمة الجنيه المصري. فقد اعتمدت الحكومة ولفترة طويلة على طبع النقود أو التمويل التضخمي وسياسة عجز الميزانية لزيادة معدلات النمو، ولعل هذا ما أدى لزيادة الاقتراض الخارجي (حيث أن كل زيادة في المعروض النقدي يترتب عليها زيادة في الطلب على الواردات والدولار الأمريكي).
ويرى البعض ان زيادة المعروض النقدي هو أمر يبدو مبرراُ تماماً، حيث نجح بالفعل في تخفيض معدلات البطالة لتصل قبل ازمة كوفيد-19 لنحو 7.5%. كما نجح في رفع قيمة الصادرات السلعية من نحو22.5 مليار دولار في العام 2016م إلى نحو 51.6 مليار دولار في العام 2022م، ورغم زيادة الورادات خلال نفس الفترة؛ إلا أن فجوة الواردات قد انخفضت بنحو عشرة مليارات دولار، لقد ارتفع عرض النقود بالمفهوم الواسع (M2) في مصر من نحو التريليوني جنيه مصري في 2016م إلى نحو الثمانية تريليونات جنيه في العام 2022م، أي بنحو أربعة اضعاف، بينما ارتفع الناتج المحلي الإجمالي بنحو الضعف فقط. وكنتيجة مباشرة لزيادة عرض النقود؛ ارتفع الدين الخارجي من نحو 50 بليون دولار الى نحو 160 بليون دولار خلال نفس الفترة. كما ارتفعت معدلات التضخم محلياً لتفوق مثيلتها العالمية بنحو 10% في المتوسط سنوياً.
وهكذا فإن الزيادة في معدلات التضخم عن مثيلتها العالمية تؤشر لتخفيض مؤكد في قيمة العملة الوطنية (نظرية تعادل القوة الشرائية Purchasing Power Parity) إلا أن السياسة النقدية واعتماداُ على تدفقات الأموال الساخنة عمدت إلى رفع قيمة الجنية بدلاُ من خفضه (فقد ارتفعت قيمة الجنيه من 20 جنيه للدولار عقب تخفيض 2016م لتصل لنحو 15.4 قبل فبراير م2022) وهو ما مثل تخفيضاً ودعماً ضمنياً لأسعار الواردات وزيادة تنافسيتها بالسوق المحلي، وعبء اضافي على الصادرات. وقد ترتب على ذلك زيادة ملحوظة في الواردات، وزيادة في الطلب على الصرف الاجنبي والذي تمت تغطيته من خلال تدفقات المحافظ والأموال الساخنة، وعندما خرجت تلك التدفقات في فبراير 2022م انكشفت القيمة الحقيقية للجنيه، وحدث التصحيح المجمع لقيمته، فطبقاً لنظرية تعادل القوة الشرائية؛ فإن التغير المتوقع في سعر الصرف يساوي فروق معدلات التضخم بين تلك المحلية والعالمية. فإذا كان فروق معدلات التضخم بين مصر والعالم الخارجي نحو 10% في المتوسط سنوياً ولمدة ست سنوات متتالية، فإن التخفيض المتوقع للجنيه يصل لنحو60% وهو ما تحقق بالفعل.
ولعل التساؤل المنطقي الأن بالنسبة لسياسة سعر الصرف في مصر: الم يكن من الأفضل لوكانت السياسة النقدية قد سمحت بتخفيض سنوي في الجنيه بنحو10%؟ الم تكن قوى السوق قد استوعبت أثار التخفيض بشكل أقل وطئة من الوضع الحالي؟ لعل هذا التحليل قد يصل بنا للتوصية بحتمية تطبيق مرونة في سعر الصرف، وادارته على أسس اقتصادية لقوى العرض والطلب الحقيقية على العملة في مصر، ويرتبط بما سبق كذلك السياسات الحكومية الداعمة لارتفاعات الأسعارالمستمرة والمتتالية، وهي في نهاية الأمر تؤدي الى تحوط مستمر من قبل المنتجين والمستوردين بزيادة ورفع الأسعار وبمعدلات أكبر عن المعدلات السائدة للتضخم، وينعكس ذلك على إحباط الطلب وتراجع السوق. وكمثال على ذلك المبالغة في أسعار الأراضي بوجه عام، مثل ما حدث في مشروع العاصمة الإدارية، للحد الذي كانت أسعار الأراضي تتغير فيه بشكل شهري. وهو ما ادي لتدهور حاد في الطلب على العقارات بها، وتأخر افتتاحها عن الموعد المقرر.
يجدر بنا عدم إغفال سياسة سعر الفائدة في مصر، حيث تعاني سياسة الفائدة ومنذ فترة طويلة من اعراض سياسات الكبح المالي Financial Repression رغم المظاهر العديدة للانفتاح المالي Financial Openness في مصر، بما في ذلك ارتفاع معدلات التضخم فوق معدلات سعر الفائدة الاسمي، وهو ما يعني تحقيق عائد حقيقي سالب يترتب عليه اتجاه المدخرات للمضاربة بدلاً عن تمويل فرص استثمار حقيقي مُنتجة، لعل أخطر نتائج أزمة الجنيه المصري الحالية هو إمكانية فقدان السياسة الاقتصادية لمصداقيتها، مما قد يدفع الافراد إلى اتخاذ سياسات تؤدي لمزيد من الصعوبات أمام هذه السياسة على تحقيق اهدافها. ولعل الوضع الحالي لسعر الصرف من أوضح الأمثلة على ذلك، فعلى الرغم من تخفيض الحكومة للجنيه مازالت قوى السوق تراهن على المزيد من التخفيض، بل وتتعامل بأسعار أخرى غير السعر المعلن من البنك المركزي.
لذا، ودعما لمصداقية السياسات المتبعة يجب تقليل الاعتماد على الأموال الساخنة، وحيث أنه لا يمكن انكار الدور التمويلي المهم لتلك التدفقات في اقتصادات العديد من الدول، إلا أن المخاطر المرتبطة بها تستدعي عدم الانكشاف الكبير عليها لما تتصف به من عدم الاستقرار. كما يجب الوصول لصيغة تعاقدية مع صناديق الاستثمار المسؤولة عن الجزء الأكبر من هذه التدفقات، وبما يضمن حد أدني لفترة الاستثمار وآلية الخروج.
خاص_الفابيتا
شكرا مقال ممتاز : كما اشرتم السبب في ماحدث في مصر ...هو الزيادة الحادة في المعروض النقدي خلال السنوات السابقة والتي تجاوزت نمو الناتج المحلي باربعة اضعاف ....ايضا التضخم العالي قياسا للشركاء التجاريين ..وكذلك التدفقات النقدية قصيرة الاجل .....لكن ايضا سبب مهم لم تتم الاشارة اليه هو ضعف ادوات السياسة المالية المصرية ....فتقريبا نسبة التهرب الضريبي في مصر من اعلى الدول ....كان بالامكان تطبيق سياسة ضريبية قوية خصوصا على الكماليات ...وتطبيقها بحزم ....لكن ربما الفساد يضرب اطنابه في مصر المحروسة والله اعلم
(حيث أن كل زيادة في المعروض النقدي يترتب عليها زيادة في الطلب على الواردات والدولار الأمريكي) المشكلة ان معظم هذه الواردات هي سلع كمالية واستهلاكية وليست سلعا انتاجية ....وهذه الواردات كان ممكن تحجمي الاستهلاكي منها عبر تطبيق سياسة ضريبية كفؤة وحازمة وصارمة .....فلو كان هناك ضريبة على السلع الكمالية وكذلك ضرائب على الاستهلاك تطبق بحزم لامكن الحد من تدهور احتياطات مصر من النقد الاجنبي !!....حتى مع وجود التوسع النقدي والتمويل بالتضخيم ...
ماحدث للجنية المصري بسبب سوء الادارة الاقتصادية حيث اقترضت الحكومة بشكل كبير لبناء العاصمة الإدارية الجديدة وزادت مشتريات الأسلحة واستنزاف الاحتياطي بتوسعه قناه السويس و تدخل الجيش بالاقتصاد على حساب القطاع الخاص وكان من الاولى لمصر الاهتمام بالانتاج الزراعي والصناعي وتشجيع الاستثمار والسياحة
اتفق معك تماماً وازيد عليه محاولة تصنيع بعض هذه السلع الكمالية لانها سوف تزيد الاستهلاك المحلي وما يتبع ذلك من طلب على الخدمات المرتبطة بها ودعم للعملة المحلية وزيادة الطلب عليها بدلاً من استبدالها بالعملات الاجنبية لاستيراد هذه الكماليات
اتمنى ان يصدر قرار باتباع النموذج الالماني لما بعد الحرب العالميه الثانيه فى اعطاء البنك المركزي استقلاليه كامله عن الحكومه وتوكل له مهمه واحده فقط الحفاظ على القيمه الحقيقيه للجنيه المصري
لا يمكن إختزال التحليل هكذا. أولاً يجب البدء من الإدخار المحلي الإجمالي، وهو ما نحصل عليه بعد خصم نفقات الإستهلاك النهائي من الناتج المحلي الإجمالي. وعندما يظل هذا الإدخار منخفضاً كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي ولفترة طويلة ــ فهذا يعني أن الدولة تنفق بسرعة، ولا تترك بما يكفي للتوسع في الثروة الوطنية في المستقبل، من خلال الإستثمار الثابت. ثانياً، تتطلب الحكمة في صنع السياسات الإقتصادية أن يقترب معدل الإدخار المحلي الإجمالي من معدل الإستثمار الثابت إجمالي، لأن هذا يعني أن الدولة قادر على تمويل خطة التنمية الإقتصادية والنمو الوطنية من خلال مواردها الخاصة في المقام الأول مع أقل قدر من الاعتماد على الاقتراض الخارجي. ثالثاً، فإن الإدارة الإقتصاديةب كل مستوياتها (تخطيط- تنظيم - توجيه - رقابة) في مصر كانت دائما تختار زيادة التمويل الأجنبي لتمويل إجمالي الإستثمار الثابت والحفاظ عليه مرتفعا بالقدر الكافي لتحقيق وتيرة النمو الإقتصادي المرغوبة. وخلال السنوات، نما حجم الناتج المحلي الإجمالي في مصر بفضل قوة الإستهلاك المحلي أكثر من الصادرات. والاعتماد على التمويل الأجنبي لفترة طويلة من الزمن يخفي نقاط ضعف هيكلية تعمل على إبقاء معدلات الإدخار المحلي منخفضة وتلحق الضرر بإمكانات النمو المستدام في مصر. وهذا بالضبط ما نعيشه الآن.