يمكن لنا تشبيه الفساد بسوسة النخيل الحمراء التي فتكت بمزارع النخيل وأصبحت من أهم المشكلات لما تسببه من خسائر فادحة على مستوى العالم العربي لا سيما في السعودية كما يؤكد الدكتور عبد العزيز العجلان والدكتور محمود أبو السعد في قسم زراعة الأراضي القاحلة بكلية العلوم الزراعية والأغذية في بحثهما حول إنزيم الأسيتيل كولين إستيريز كهدف موجهة للمبيدات الحشرية الذي قدم في ندوة النخيل الرابعة التي نظمها مركز أبحاث النخيل والتمور عام 2007 في جامعة الملك فيصل بمحافظة الاحساء.
تم اكتشاف أول إصابة "بالسوسة الحمراء" في المملكة العربية السعودية بالمنطقة الشرقية بداية عام 1987م ثم انتشرت بعد ذلك في المناطق المختلفة وأصبحت أخطر آفة تهدد النخيل في دول الخليج العربي ومنطقة الشرق الأوسط و شمال أفريقيا وقد خسرت مصر أكثر من 15 مليون نخلة بسبب انتشار الوباء. إصابة النخيل بهذا المرض إصابة مدمرة وإذا ما تركت دون اكتشاف أو علاج تقضي علي النخلة تماما في فترة تتراوح من سنة إلى سنتين حسب عمر وحجم النخلة، حيث يصبح قلب النخلة مجوفا لا يقوى على حمل جسمها فتسقط مغشياً عليها مع هبوب الرياح.
هذا ما حدث تماما للشركات الأمريكية التي نخر فيها الفساد من الداخل فتهاوت كقطع الدومينو عندما عصفت بها الرياح بعد أن تضخمت أصولها إلى عشرات المليارات من الدولارات وجذبت العديد من المستثمرين. ابتداءً من الانهيار المفاجئ لعملاق الطاقة "انرون" بتواطؤ ومشاركة لصيقة في الجرم اكبر شركات التدقيق المحاسبي "ارثر أندرسون" ومن ثم إعلان إفلاسها في الثاني من ديسمبر 2002م بعد كشف النقاب عن مخالفات حسابية أخفت خسائر بقيمة 25 مليار دولار, وانتهاءً بووردكوم ثاني اكبر شركة في مجال الاتصالات وخدمات المعلومات الدولية التي أعلنت اكتشاف مخالفات حسابية تبلغ قيمتها 3.85 مليار دولار في عام 2001م ثم قررت على اثر ذلك وضع نفسها تحت حماية قانون الإفلاس الفصل الحادي عشر في 22 يوليو 2002م, فكانت الكارثة فادحة والخسائر موجعة مخلفة ورائها ضحايا كثر حتى بلغ حجم أصول الشركات التي أعلنت إفلاسها خلال عام 2002م 230,7 بليون دولار .
سنوات بعد إسدال الستار على سلسلة الفضائح المالية للشركات الأمريكية حتى بدأت أم الكوارث ومدمرة الأسواق المالية وماحقة الشركات التاريخية "أزمة الرهن العقاري" فكان أولى ضحاياها ﺒﻴﻴﺭ ﺴﺘﻴﺭ ﻨﺯ فنيمي وفردي ماك حتى تطاير شررها في كافة الأصقاع ومختلف الزوايا على مدار الكرة الأرضية بعد سقوط رابع اكبر البنوك الاستثمارية ليمان براذرز يوم الأحد الأسود 15 سبتمبر 2008م وضع النظام المالي الأمريكي والعالمي برمته على المحك, وتبخر ما يقارب 700 مليار دولار وتشرد 25 ألف موظف. نتج عن ممارسات خاطئة من قبل الإدارة، فيها الكثير من المجازفة، تجاوزت بشكل متكرر معايير المخاطرة الداخلية التي تعتمدها، كما ارتكبت مجموعة كبيرة من الأخطاء واتخذت خطوات دون تفكير دقيق, إلى جانب عمليات تلاعب في البيانات المالية. وفقا لتقرير محاسبي أعده أنطوان فالوكس المعين من قبل القضاء الأمريكي.
تتباين الآراء وتختلف التفسيرات في بحث مسببات الأزمة الكارثية على المستوى الفكري بين أزمة النظام الرأسمالي والسياسة النقدية بعد انهيار قاعدة الذهب وثقافة الاستهلاك وعدم تطبيق الرأسمالية الصافية المتمثلة في الاقتصاد الحر وعدم تدخل الدولة بأي شكل من الأشكال في النشاط الاقتصادي. وعلى مستوى الأسباب الاقتصادية المباشرة فتتوزع بين عدم قدرة ألاف الأمريكيين من ذوي السجل الائتماني الضعيف على سداد قروضهم العقارية تجاهل المصارف الضوابط المالية وتقييم المخاطر والمشتقات المالية والفوائد المركبة.
فإذا كان ازدهار الغرب وريادته للعالم تتمثل في ستة أسباب رئيسية هي المنافسة، والثورة العلمية، وحكم القانون والحكومة التي تمثل الشعب، والريادة في قطاع الأدوية الحديثة، والمجتمع الاستهلاكي، والقواعد الأخلاقية للعمل كما يؤكد أستاذ إدارة الأعمال في كلية الأعمال بجامعة هارفارد وأستاذ التاريخ نيال فيرغسون, فان أي إخلال بهذه الأسباب او التخلي عن بعضها لابد ان يجر الى التقهر والتراجع في قيادة العالم وفقدان ثقة الآخرين بهذه الريادة.
فمسلسل الفضائح المالية لكبرى الشركات الأمريكية التي لا تزال تتوالى تضرب في الصميم احد الأسباب الستة "القواعد الأخلاقية للعمل" وشكلت سببا رئيسيا لتراجع الولايات المتحدة الأمريكية في سلم الشفافية في تقرير مؤشر إدراك الفساد لمنظمة الشفافية الدولية يوم الثلاثاء 26/10/2010م من المركز 19 العام الماضي إلى المركز 22 في العام الحالي.
وتؤكد نانسي بوزويل رئيسة الشفافية الدولية في الولايات المتحدة إن أساليب الإقراض في أزمة الرهانات العقارية وفضيحة رجل المال برنارد مادوف, والخلافات بشأن التمويل السياسي أدت كلها إلى زعزعة ثقة الناس في القيم الأخلاقية في أميركا.
هذه هي الصورة في دولة القانون والازدهار والرفاه فكيف هو المشهد في دول العالم النامي والوطن العربي على وجه الخصوص؟ يتبع ...