كيف أخفقت المليارات المخصصة للقطاع الصحي في تحقيق شعار وزارة الصحة "المريض اولا"؟

10/08/2015 3
محمد الزاكي

سر التفوق الغربي وريادته للعالم تتمثل في ستة عوامل رئيسية واحد من هذه العوامل قصب السبق في الميدان الطبي الذي ازدهر في القرن التاسع عشر والقرن العشرين ولا زال مستمراً في شتى المجالات الطبية طبقاً لرأى أستاذ إدارة الأعمال في كلية الأعمال بجامعة هارفارد وأستاذ التاريخ بالجامعة نيال فيرغسون في كتابه الحضارة..الغرب والآخرون.

تطور العلوم الطبية وصناعة الأدوية زاد متوسط عمر الإنسان الغربي إلي 80 سنة مقارنة ب50 سنة في الدول الفقيرة ونتيجة لذلك فاقت مساهمة الفرد الغربي في الدورة الإنتاجية عن مساهمة الفرد في الدول النامية.  

 إن أي متابع للموازنة السنوية العامة يلحظ المليارات المخصصة للخدمات الصحية والاجتماعية لما لها من أهمية بالغة في حياة المواطنين ورسم مستقبلهم الاقتصادي والاجتماعي , فكلما كان المواطنون يحظون بخدمات صحية متكاملة كلما كانت قدرتهم على الإنتاج والعطاء في شتى الميادين اكبر, بعكس المجتمعات التي تداهمها الأمراض الفتاكة تكون أكثر استعداداً للتقهقر والتراجع وغير قادرة على النهوض والمساهمة في العملية الإنتاجية.

تبرز الموازنات العامة ارتفاع المخصصات المالية للخدمات الصحية والاجتماعية بوتيرة متصاعدة حتى بلغت نسبة 161% في عام 2015 مقارنة بما كان مخصصاً في عام 2010 والملفت في الموازنة الحالية إن نسبة الارتفاع بلغت 48% بالمقارنة بعام 2014 وتشكل 18.6% من الموازنة العامة التقديرية ومع ذلك لم يشعر المواطنون أثراً ملموسا لزيادة الموارد المالية على جودة الخدمات الطبية والرعاية الصحية المقدمة. 

كثرة الأخطاء الطبية وقوائم الانتظار والعلاج في الخارج مؤشرات ودلائل لا تقبل النقض ولا نحتاج كثير عناء للاستنتاج إن الخدمات الصحية المقدمة ليست في مستوى الطموحات رغم إنفاق الدولة بسخاء على القطاع الصحي ولهذا نستنتج بالاستناد إلى الأرقام إن المشكلة لا تكمن في الموارد المالية المخصصة لأنها متصاعدة عام بعد عام ما يستدعي البحث بشكل موضوعي عن مكامن الخلل ومسببات العجز في انجاز الطموحات وتحقيق الغايات.



أين تكمن المشكلة؟ أين الخلل في العملية الانتاجية؟ لماذا تعجز كل هذه المليارات من تقديم خدمة صحية مميزة ومرضية للمواطنين على مستوى الكم والكيف؟ 

تفسيرات مختلفة وتبريرات عديدة لا يمكن تسويقها للمواطنين بيسر في ظل زيادة وعي المواطن وارتفاع سقف مطالبه بخدمات صحية يستطيع الوصول إليها بسهولة ووفق معايير جودة عالية.

تقرير وزارة الصحة حدد 14 سبباً لتدني الخدمات الصحية المقدمة في المملكة وفقاً لصحيفة "الوطن" في عددها الصادر يوم الخميس، 14 يوليو 2011 أبرزها الافتقار إلى العمل المؤسسي وغياب المراقبة، والإقرار بعدم وضوح الرؤية والرسالة ومنظومة المبادئ والقيم بين منسوبيها.

 وعدم مراعاة المعايير الموحدة للجودة في الخطط الخمسية الثمان السابقة وعدم امتلاك العدد الكافي من الكوادر البشرية المؤهلة في جميع التخصصات، فمعدل الأطباء في المملكة وحتى العام الماضي ما زال يطلب المزيد منهم للاقتراب من المعدل العالمي.

 إذ تواجه المملكة حتى اللحظة كل ألف نسمة من السكان بـ 2.18 طبيب و4.1 ممرضين، وهو ما يقل عن معدلهم في دول منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي الذي يبلغ 3.2 أطباء، و9.66 ممرضين. وتصف الوزارة حالها أمام المواطنين بالمعاناة. معاناة من تدني نسب السعودة، وكثرة الاستقالات، وتسرب الكفاءات إضافة إلى تدني المؤهلات العلمية وصولاً إلى نقص برامج وتأهيل وتطوير المهارات القيادية الإدارية. كذلك اختلاف جنسيات العاملين بها التي قاربت الـ35، معتبرة أن خلفياتهم اللغوية والثقافية والعلمية المتباينة يشكل تحدياً أمامها في ضمان الالتزام بتقديم خدمات صحية مجودة وسليمة. 

وجاءت الميزانية كأبرز نقاط الضعف التي قالت الوزارة إنها تعاني من محدوديتها، الأمر الذي أدى إلى التأثير سلباً في قدرتها على تقديم الخدمة التي ترضي الجمهور. ففي الوقت الذي تشهد فيه تكاليف الرعاية الصحية ارتفاعاً متواصلاً وازدياداً للعبء المرضي، فإن نصيبها من الميزانية لا يزال دون المستوى المأمول، كما يقول التقرير، وهو الأمر الذي وضعها في مراتب متأخرة مقارنة بدول خليجية وعالمية.

مع وجاهة الأسباب آنفة الذكر في تقديري الرئيس دوايت ايزنهاور لديه إجابة أخرى حين قال "كل مدفع يصنع وكل بارجة تنزل الى الماء وكل صاروخ يطلق يعني في النهاية سرقة ممن يعانون الجوع ولا يطعمون". ايزنهاور الرئيس الـ34 للولايات المتحدة الأمريكية خلال الحرب العالمية الثانية كان يشغل منصب القائد الأعلى لقوات الحلفاء في أوروبا، نستشف من مقولته كانه تلميذ لادم سمث وليس جنرالاً عسكرياً فهو يشير الى ان الموارد المتاحة محدودة توجيهها للانتاج الحربي سوف يكون على حساب المعدمين من المواطنين.

وللتوضيح أكثر المشكلة أشبه بمعادلة (الدخل= الاستثمار+الاستهلاك( و(شعار"المريض اولا"= التكلفة الفعلية+الفساد المالي والاداري وسوء الادارة) وبالتالي حتى يمكن تحقيق اقصى ما يمكن تحقيقه من شعار الوزارة "المريض اولا" لابد من توجيه المخصصات المالية نحو الكلفة الفعلية للانتاج بالدرجة الاولى ومحاولة وقف اهدار الموارد باتجاه الطرف الثاني من المعادلة بمعنى اخر محاولة التصدي لاي تصرفات تحاول توجيه الموارد المالية نحو الفساد المالي والاداري وسوء الادارة.

ولو أخذنا على سبيل المثال مكافأة العمل الإضافي "مخصص شراء الذمم" مبلغ وقدره في العام الواحد لانجاز الأعمال التي لا يمكن انجازها أثناء فترة الدوام الرسمي وللقيام بواجبات وظيفة شاغرة أو القيام بعمل استثنائي آو مهمة رسمية وليس نتيجة قصور أو إهمال من الموظفين حسب ضوابط تكليف العمل خارج الدوام الرسمي في المادة الواحدة والثلاثين, نستنتج على فرض تم صرف 50% من المخصص لشراء الولاءات والذمم سيكون التأثير المباشر على النحو السلبي بنفس النسبة على حساب انجاز وظائف ضرورية تصب في خانة الجودة والكفاءة والفاعلية في تقديم الرعاية الصحية.

المتنفذون يغيب عن أذهانهم جوهر حقيقة علم الاقتصاد إن الموارد المتاحة مهما كانت ضخامتها فهي تتسم بالندرة يقابلها حاجات متعددة للمجتمع وبالتالي ندرة الموارد تستلزم الكفاءة أي عدم الهدر بمعنى آخر أكفأ استخدام للموارد المتاحة, ولكن في حقيقة الأمر تعتبر غنيمة فيتم تقاسمها بين الأقربين على حساب تحقيق الغايات المستهدفة والطموحات المأمولة من هذه الموارد. 

أثبتت دراسات تحليل القوى المؤثرة على أداء المنظمات والمؤسسات الكبرى أهمية العنصر البشرى كعامل رئيسي في نجاحها وتفوقها واستمرارية تحقيق الأهداف المستقبلية بكفاءة وفاعلية في بيئة تتسم بحدة المنافسة وشراسة المعركة, أضف إلى ذلك إن الاستخدام الأمثل للموارد المالية والأصول المادية الأخرى مرهون بكفاءة الموارد البشرية ولذلك إن التحدي الكبير الذي يواجه الإدارات العليا هو ضمان استقطاب القوى العاملة الكافية في التخصصات الصحية التي تتمتع بالمهارات المناسبة مع الأخذ في الاعتبار إن القوى العاملة هي العامل الحاسم والمحدد الرئيسي للأداء في المستشفيات من حيث الجودة والكفاءة والفعالية في تقديم الرعاية الصحية. 

من هنا تكمن أهمية إدارة الموارد البشرية التي يقع على عاتقها دور رئيسي في عملية استقطاب واختيار العناصر المؤهلة القادرة على الانجاز والتفاني  في تحقيق الأهداف والتطلعات وفشل إدارة الموارد البشرية في هذه المهمة له عواقب سلبية وخيمة أبرزها البطالة المقنعة.

البطالة المقنعة احد أهم نتائج الفساد الإداري تستنزف الموارد المالية والتي يمكن تقدير حجمها من خلال المعيار الدولي لنسبة الموظفين بدوام كامل full-time-equivalents (FTE) والمحددة ب 6.7 لكل سرير مع الأخذ في الاعتبار إن القوى العاملة تشكل  50-60% من إجمالي النفقات في المنشآت الصحية, ففي حالة مستشفى بسعة 200 سرير يفترض أن لا يتجاوز عدد الموظفين بدوام كامل عن 1340 موظف بينما تتراوح النسبة في المملكة بين 10-11  أي 2000 موظف في حالة النسبة 10 لكل سرير و 2200 موظف في حالة النسبة 11 لكل سرير  وترجمتها في صورة تكلفة مالية  مهدرة على فرض إن مخصص الرواتب والبدلات المصاحبة يبلغ 250 مليون ريال في العام الواحد نجد 82.5 مليون تكلفة  660 موظف وتشكل نسبة 33% أو 97.7 مليون تكلفة 860 موظف وتشكل 39% من الموارد المخصصة تهدر على موظفين إنتاجيتهم لا تضيف شيئا للمنشأة أي الإنتاجية الحدية تساوي صفر حسب التعريف العلمي للبطالة المقنعة. 

في المقابل نجد إن متوسط نسبة الموظفين بدوام كامل لكل سرير في الدول المتقدمة بلغت 4.5 موظف لكل سرير حسب إحصاءات عام 2010 في دراسة مقارنة لمستشفيات دولة الإمارات من إعدادInternational Consulting Management & Engineering  (ICME).

كما يمكن قياس كفاءة إدارة طاقم التمريض بشكل دقيق جدا من خلال مؤشر NHPPD  وترجمتها في صورة تكلفة مالية تتحملها المنشأة وبالتالي لا مجال لإمكانية التذرع بنقص طاقم التمريض كسبب رئيسي للعجز والفشل في تحقيق الأهداف لان المؤشر يوضح بما لا يدع مجالا للشك بالأرقام الفجوة بين الساعات المخططة والفعلية ما يتيح لإدارة التمريض إعادة التوزيع وتقليص الفجوات, وكذلك يمكن تحديد الوفورات المالية في حالة الأداء الايجابي من جانب والتكاليف المالية المهدرة نتيجة سوء الإدارة من جانب آخر.

تفاصيل استنزاف الموارد المالية من خلال سوء الإدارة والفساد المالي والإداري يتطلب عدة صفحات ولذلك لن نستغرق طويلا في سرد الأمثلة لهيمنة ثقافة الفساد المتغلغلة ونكتفي بالإشارة إلى إن عملية تأمين ورقه كلفتها الفعلية لا تتجاوز 5 ريالات قد يتم تأمينها ب 70 ريالاً على حساب مخصصات المرضى الذين هم بأمس الحاجة لكل ريال تم تخصيصه من الموازنة العامة.

الفساد حلقة متصلة قد تبدأ أحيانا من الممثل المالي الذي تقدم له رعاية طبية خاصة أو توظيف قريب غير مؤهل وانتهاء بموظف متنفذ في الوزارة يصرف له شهريا مرتب عقد مؤقت أو توظيف أقاربه من ذوي التخصصات الهامشية ولن تكون اللوائح والأنظمة عائقاً في ظل هيمنة ثقافة الفساد بجانب أجهزة رقابية عديمة الفاعلية.

غول الفساد المالي والإداري في ظل المعيار الشهير لمفهوم الانجاز في الوحدات الإدارية الحكومية " بلوغ نسبة الصرف 100%" يا معالي الوزير هو العائق الرئيس أمام ما تفضلتم به على موقع التواصل الاجتماعي "في اعتقادي إن تطوير المنظومة الصحية يتطلب التكامل والتناغم بين محاورها الثلاث: المنشآت الصحية, والأنظمة واللوائح, والموارد البشرية".