الانجازات الصناعية والاقتصادية المذهلة والتحولات التاريخية والاجتماعية الكبرى لا تأتي من فراغ وليست وليدة الصدفة ولا يمكن أن تحدث فجأة وإنما نتاج مدخلات العملية الإنتاجية والمتمثلة في عوامل جوهرية تراكمية تصنع هذه الانجازات وتسهم في تلك التحولات.
في خطوة فريدة من نوعها أصدر السيد عبد الله بن حمد العطية نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الصناعة والطاقة القطري، رئيس مجلس إدارة شركة قطر للبترول تعميماً في 27/05/2008م إلى جميع الشركات التابعة لشركة قطر للبترول وشركات المشاريع المشتركة والجهات ذات العلاقة، أوضح فيه أن شركة "السد"، ومؤسسة "السد" تعود ملكيتهما لنجله السيد حمد بن عبد الله العطية ودعا الوزير العطية الشركات والجهات ذات العلاقة في تعميم اطلعت "أرقام" على نسخة منه إلى عدم التعامل مع هاتين الشركتين وذلك منعاً لأي حالة تعارض مصالح محتملة.
لا شك إنها انعطافة نوعية على مستوى العالم الثالث من رجل الانجازات في المرحلة الراهنة من تاريخ دولة قطر المعاصر ابتداءً من مشاريع الغاز التي أحدثت نقلة جوهرية في الاقتصاد القطري وشكلت مرتكزاً أساسيا وعمقاً استراتيجياً في تنويع مصادر الدخل, ونتيجة لذلك سوف يتضاعف حجم الاقتصاد القطري عام 2012م وفق تقرير صادر عن مجلة يورموني EUROMONEY ليبلغ نحو 142 مليار دولار مقابل 71.08 مليار دولار سنة 2007م, إلى شركة صناعات قطر للبتروكيماويات التي أسست حديثاً وبالتحديد عام 2003م واستطاعت في فترة وجيزة أن تصبح من كبرى شركات قطاع البتروكيماويات على مستوى الشرق الأوسط و تتطلع إلى أن تتبوأ مكانة متقدمة على المستوى العالمي في المرحلة المقبلة.
بعيداً عن تفسير النوايا وفك الطلاسم أو كونها تصب في خانة الفرقعة الإعلامية كما هو معتاد في الوطن العربي تمثل خطوة في الاتجاه الصحيح وهو المنهج المطلوب اعتماده في كل المؤسسات والمصالح الحكومية بصرف النظر عن النوايا والأهداف المكنونة هذا إذا ما أردنا أن نرتقي إلى مستوى التحديات الراهنة ومواجهة الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية القادمة.
لقد أوضح تقرير الفساد عام 2008 الذي أصدرته منظمة الشفافية الدولية إن أداء دول مجلس التعاون الخليجي لا يزال غير مقنع فيما يخص محاربة الفساد في المعاملات الرسمية وأشار التقرير إلى أن دولة قطر قد حافظت على المرتبة الأولى بين جميع الدول العربية بعد أن حلت في المركز 28 عالميًا، ما يمثل تحسن ترتيبها أربع مراتب عن عام 2007م, وجاءت في المرتبة التاسعة عشرة بعد اليابان، وبمجموع 7.7 نقطة في تقرير منظمة الشفافية الدولية الذي صدر يوم الثلاثاء 26 أكتوبر 2010م.
لا أتصور إننا بحاجة إلى أن نخوض صراعاً مريراً مع الفكر الديني كشرط للنهوض وتحقيق الانجازات كما ذهب إليه مثقفو الحداثة العربية منذ قرنين من الزمن ولا زالوا في خضم هذا الصراع يعيدون إنتاجه بإشكال مختلفة, أو تحطيم الدكتاتورية السياسية كما يميل إليه المفكر التونسي محمد المنصف المرزوقي, أو تغيير الجغرافيا الطبيعية التي أفرزت الثقافة الصحراوية كما يقول المفكر البحريني الدكتور محمد جابر الأنصاري مع التسليم بوجاهة ومنطقية معظم ما تطرحه التيارات الفكرية المختلفة في تشخيصاتها للواقع المأزوم في الوطن العربي. إلا إن النماذج المعاصرة والتي نتعايش مع انجازاتها التاريخية أسقطت مسلمات فكرية سادت ردحا من الزمن وعلى رأسها الأرذودكسية الاقتصادية على صخرة الإرادة السنغافورية. وتهاوت نظرية التغيير الجذري على يد التنين الصيني والنمر الماليزي.
الحاجة الماسة إلى كفاءات تتمتع بأساسيات المهارة القيادية والتي حددتها الدكتورة ديبرا بنتون في كتابها "جاذبية المدير التنفيذي" بالاستقامة والثقة والشفافية التامة, وعلى وزن وراء كل رجل عظيم امرأة وراء كل منشأة ناجحة إنسان يتمتع بالمهارة القيادية.
الاستقامة والثقة والشفافية التامة متطلبات أساسية لاكتساب المهارة القيادية وهي ليست مواعظ كما تقول د. بنتون في كتابها الصغير الحجم الغزير في المضامين. بل هي مسلمات متوافقة مع الفطرة الإنسانية بدليل إن جميع البشر بمختلف منطلقاتهم الفكرية وتوجهاتهم الدينية يقدسون هذه القيم ويحترمون من يتمتع بها.
وتضيف الكاتبة ديبرا بنتون مؤسسة شركة بنتون لإدارة الموارد البشرية ومؤلفة كتابhow to think like a CEO الأفضل مبيعاً على قائمة جريدة نيويورك تايمز إن المهارة القيادة لا تعني إن ترفع نفسك بأنانية فوق سلم القيادة أنها ليست شهرة بدون قيادة وليست أسلوباً بلا محتوى وليست نجاحاً بلا شخصية وليست المهارة القيادية مزيجا مغريا وامضا من الكهنة والتظاهر , إن المهارة القيادة ليست سحرا أنها قدرة يمكن تعلمها.
بمعنى إنها ليست المظاهر الخادعة والهيلمان الأسطوري كما إنها ليست صفة وراثية من جل إلى آخر وإنما هي من القدرات المكتسبة التي تصقل من خلال التعليم والتجربة شريطة توفر الأساس الأخلاق والسلوكي في الشخصية القيادية والمتمثلة في الاستقامة والثقة والشفافية التامة.
وتورد في معرض حديثها عن الاستقامة المثال التالي "قالت لي إحدى المديرات التنفيذيات إن سرقة الأفكار شيء شائع حيث اعمل على سبيل المثال عندي زميلة في العمل وهي ذكية للغاية ويجب على أن امنع نفسي من سرقة أفكارها على الرغم من قدرتي على القيام بذلك دون أن يكون لديها القدرة على أن تمنعني ربما لن تعرف من الأساس ولكني لا أقوم بذلك لأنني لا اقبل القيام بهذا.
في المقابل نجد من الشائع جدا السرقة بمختلف أشكالها المتعددة والتعدي على المال العام وتغلغل ثقافة الفساد المالي والإداري في المرافق الحكومية والمؤسسات والشركات الأهلية حتى بلغت نسبة 68 % من المستثمرين في السعودية يلجأون لأساليب غير نظامية لتسهيل أعمالهم تنطوي على فساد كالرشوة والواسطة والتحايل وفقاً لدراسة أعدّها منتدى الرياض الاقتصادي وكشف عنها بتاريخ 20/12/2011م, وبالتالي ليس من المستغرب أن تقبع معظم الدول العربية في ذيل قائمة الأكثر فساداً على المستوى العالمي.
وإذا ما نظرنا شرقاً إلى النموذج الصيني تحديدا نجد عنصرين أساسيين في الانطلاقة الصينية نحو القمة بعد إزاحة القوى الاقتصادية العريقة من المقدمة الاستثمار في التعليم ومحاربة الفساد بقسوة لما له علاقة مباشرة بالاستقرار الاجتماعي وخطر على السلم الأهلي.
أما النموذج الماليزي فابلغ من يعبر عنه الدكتور محاضر محمد رئيس الوزراء الأسبق مهندس خطة 2020 في كتابه طبيب في البيت حيث قال "إن الرسالة الرئيسية للكتاب هي "حيث هناك إرادة هناك وسيلة" و"إن أفضل مكافأة ليست المال، ولكن نتيجة عملنا". وقال قبل تقاعده كرئيس للوزراء في الحكومة الماليزية، إن حكومته أدركت تماما أهمية اعتناق قيم إيجابية لتحقيق التقدم المنشود للمجتمع والدولة في ماليزيا، ولهذا دعا منذ توليه رئاسة الوزراء عام 1981 إلى "سياسة النظر شرقا" والمقصود بها اعتناق قيم العمل السائدة في اليابان وكوريا التي تقوم أساساً على الانضباط الشديد والإخلاص التام لجهة العمل والحرص على اختيار المديرين المتميزين ليكونوا قدوة لموظفيهم".
لقد استوعب الشعب الماليزي الرسالة فشمر عن ساعديه وتحول الاقتصاد الزراعي البسيط إلى اقتصاد متنوع ومنافس قوي حتى بلغت الصادرات من السلع الوطنية 411.4 مليار/ رنغيت خلال عام 2010م. في الضفة الأخرى لا زالت الرسالة متعثرة كوادر غير مؤهلة في قمة هرم المؤسسات والمصالح الحكومية وهيمنة ثقافة اللا نظام والفساد المالي والإداري في محصلتها النهائية تضخم تكاليف المشاريع وهدر مليارات الريالات من الخزينة العامة على مشاريع متعثرة وخدمات سيئة تثير ضجر كافة إفراد المجتمع بمن فيهم الفاسدين المستفيدين من هيمنة ثقافة الفساد إذا مسهم الضرر من سوء الخدمات وأخيراً فشل تحقيق التنمية المستدامة وتهديد الاستقرار الاجتماعي.