مع تصاعد التحديات العالمية في الاقتصاد، ودخول العالم في تنافس محموم على بناء اقتصاديات قوية تقاوم التغيّرات ظهر منذ أكثر من عشرين عاماً مفهوم الاقتصاد المبني على التجربة. وقد طرح هذا المفهوم ابتداءً جوزيف باين B. Joseph Pine II وزميله جيمس جيلمور James H. Gilmore من جامعة هارفارد في مقال نشر لهما في مجلة هارفارد عام 1998م بعنوان: Welcome to the Experience Economy “مرحباً بكم في اقتصاد التجربة"، ويقوم الطرح على أنه مع التطور الاقتصادي فإن الاقتصاد مر بمرحلة الاقتصاد الصناعي، والذي يعتمد على التطور الاقتصادي من خلال الصناعة ومدخلات الإنتاج، وفي هذه الحقبة كانت الاقتصاديات الصناعية تتسابق على التطور الصناعي، وتطوير الآلة وعناصر الإنتاج، ومع دخول الصناعة في مراحل متقدمة، وتطور التصنيع أصبح التسابق على الخدمة، ومن يقوم بتقديم خدمة أفضل. ومن هذا المنظور أصبحت الخدمة عاملاً رئيسياً مصاحباً للأعمال وتطورت اقتصاديات الخدمات بشكل واسع، فأصبح لا يمكن أن تشتري سيارة فقط لجودة التصنيع، ولكن يهمك خدمة ما بعد البيع.
ينسحب هذا على العديد من المنتجات، والصناعات، بل وأصبحت صناعة خدمية بحتة مثل السياحة والخدمات المالية تكون من أهم ركائز الاقتصاد في بعض الدول فمثلاً سويسرا تعد مركزاً مالياً مهماً، والمالديف تبني اقتصادها على السياحة. ومن هنا تطور اقتصاد الخدمة، وأصبح هنالك اعتناء بمستوى الخدمات، وتدريب وتطوير للخدمات، وأصبحت تسافر لدول نظراً لجودة الخدمات المقدمة بها، وتعزف عن دول لسوء الخدمات.
ومع تطور مفهوم الخدمات إلى مفهوم أوسع، وهو ما يعرف بالتجربة أصبح لابد من تطوير اقتصاديات قائمة عليها، فما هي التجربة، ولماذا هي أوسع من الخدمات. بتعريف بسيط التجربة هي مجموع ما يمر به المستهلك من تجارب خلال استخدام المنتج أو الخدمة، فمثلاً عندما تحجز غرفة في فندق فأنت تمر بمجموعة تجارب قبل وصولك إلى الفندق أو الغرفة التي حجزتها فأنت تدخل على التطبيق، أو الموقع لحجز الغرفة فهذه تجربة، ثم تنتقل إلى الفندق، فطريقة الترحيب ووضع الفندق والاستقبال هذه تجربة أخرى، وأثناء إقامتك في الفندق مدى نظافة الغرفة، وهدوئها هذه تجربة تجعلك تأخذ القرار بإعادة التجربة أم لا.
هذه السلسلة من التجارب هي ما تجعلنا نكون صورة ذهنية حول المنتج أو الخدمة، وتجعلنا نفكّر في تعميق التجربة من خلال إعادتها، أو عدم إعادتها بتاتاً وقد يتطور الحال بأن لا نرغب في مشاركة هذه التجربة السيئة مع الآخرين، وننصحهم بعدم خوض التجربة. وكل هذه الأمور لها مردودات اقتصادية عميقة تجعلنا نفكّر في اقتصاد التجربة أضف إلى ذلك أن هنالك بعض التجارب لابد أن تكون جماعية، وميزاتها بأن تكون مع مجموعة مثل تسلق الجبال، وهنا تُبني بعد اقتصادي جماعي آخر.
فمن خلال الدراسات أصبحنا نعلم أن المستهلكين يقيمون تجربة كاملة للخدمة والمنتج، وليس فقط خدمات ما بعد البيع أو جودة المنتج، فأنت عندما تستهلك فنجاناً من القهوة أنت تستمتع بتجربة كاملة من جودة استقبال العاملين إلى راحة الجلوس في المكان، ومن ثم جودة القهوة فكل هذه العناصر تكون تجربة متكاملة تجعلك على استعداد أن تدفع في فنجان قهوة ثلاثة أضعاف ما تدفعه في مكان آخر. ومن هنا أتت أهمية اقتصاد التجربة، وكيف يمكن لهذا المفهوم أن يبني اقتصاديات التجربة، فهناك على سبيل المثال من يستمتع بتجربة الغوص، فقيام اقتصاد متكامل على ساحل البحر الأحمر في المملكة العربية السعودية يعزز اقتصاد التجربة.
ولكن كيف لنا أن نجعل من اقتصاد التجربة شيئاً ملموساً يمكن حسابه؟ هذا يأتي من عدة طرق أولاً: إذا اعتبرنا أن التجربة تنقسم إلى ثلاثة أشياء فهي أما تجربة منتج بحد ذاته مثل شرب القهوة أو تجربة خدمية بحتة مثل الخدمات المالية، أو تجربة مبنية على مزيج من التجارب مثل الرياضات البحرية هنا نستطيع أن نبني قيمة ملموسة لكل مرحلة، ثانياً: إن القيمة المضافة لأي خدمة أو منتج هو ما يرفع قيمته الاقتصادية، فلا يمكن اليوم أن نفصل صناعة الطيران عن قطاع السفر، وهما مكملان لبعضهما، فتحسين جودة المطارات وتجربة السفر تدعم صناعة الطيران والاقتصاد القائم عليها.
ومع انطلاق رؤية السعودية 2030 أصبح التنوع الاقتصادي ضرورة، ومن هذا المنطلق يأتي ترسيخ اقتصاديات التجربة فالمملكة بتنوعها الجغرافي والثقافي تستطيع بناء تجارب سياحية لا مثيل لها في العالم، ومع وجود الحرمين الشريفين تستطيع بناء تجربة دينية لا مثيل لها لزوار الحرمين الشريفين، وأيضاً هناك التجارب الرياضية، والتي ستقبل عليها المملكة باستضافة أحداث عالمية رياضية، وهذا رافد آخر للاقتصاد، وأيضاً تجربة الترفيه باكتمال مشاريع مثل القدية وغيرها.
ولأن اقتصاد التجربة يحتاج إلى مقومات أساسية يبقي العامل البشري من أهم التحديات، ولذلك وجود تطوير للقدرات السعودية في هذا المجال، وفهم البعد العاطفي والإنساني في التجربة مسألة لابد من الاستثمار بها، وأيضاً توفر البنية التحتية التي تساعد على بناء التجربة. ولذا فإن هناك جهداً منتظراً من عدة قطاعات، وبشكل مشترك وتكاملي لتعزيز اقتصاد التجربة، وهي وزارات السياحة والتجارة والرياضة والحج والصحة والثقافة والإعلام لتوحيد الجهود، وإيجاد فرق عمل متخصصة مدربة بالشراكة مع القطاع الخاص ليقوم بالتدريب والإشراف على تلك الفرق، وليكون الاقتصاد السعودي من الاقتصادات العالمية القائمة على التجربة، ولنتمكن من الاحتفاظ بذات المعدل من الإقبال السياحي على السياحة السعودية، والتي تمكّنت بتوفيق الله ثم بالتوجيهات السديدة للقيادة الرشيدة تبدأ بأن تكون واحدة من الوجهات السياحية العالمية.
الأمر لا يتوقف على المجال السياحي فحسب، بل يمتد للقطاع الصحي أيضاً من خلال السياحة العلاجية والتي تعد أحد اهم عناصر تنويع مصادر الدخل المعتمد على اقتصاديات التجربة، وأمامنا العديد من التجارب العالمية الناجحة في الشق العلاجي السياحي منها التجربة التشيكية، والتي تعد وجهة للسياحة العلاجية القائمة على التجربة، ونعتقد جازمين أن المملكة العربية السعودية يمكنها أن تصل إلى أبعد من هذا المستوى، ولا ننسى السياحة الريفية التي تزخر بها بلادنا الغالية إذا أحسن استثمارها.
وجميع ما ذكر يصف لنا أهمية تجربة العميل في السوق السعودي، وقوة أثر التحوّل الرقمي الحديث الذي ساعد في خدمة ملحوظة تميّزنا بها عن الكثير رغم التحديات لذلك يجب التحسين والتطوير المستمر في صنع الجودة لخدمة العميل.
المقالة نشرت في النشرة الفصلية لجمعية الاقتصاد السعودية عدد سبتمبر 2024