جاءني هذا السؤال من القارئ عباس المغني، الذي يقول "تحية طيبة وبعد:
إذا كانت دولة تقوم بإرساء مناقصات بمئات الملايين من الدنانير على شركات أجنبية، وهذه الشركات الأجنبية تقوم بجلب كل احتياجاتها من الألف إلى الياء من الخارج، من معدات وأدوات وعمال وطعام وشراب وسكن..وتحول ملايين الدنانير للخارج...ولا تنفق أموال في السوق المحلية حتى على الطعام. ما هو تأثير ذلك على الاقتصاد الوطني لهذه الدولة؟" وإجابتي هي: شكرا أخي عباس، وأعتذر عن التأثير في الإجابة بسبب ظروف الشهر الكريم.
على ما يبدو من صياغة السؤال فإنه قد يسوقنا إلى إجابة محددة، وهي أن مثل هذه الممارسات من قبل الدولة ليس لها أي تأثير على الاقتصاد الوطني للدولة، أو ربما يكون أثرها سالبا!، حيث يتم إنفاق مئات الملايين من الدولارات بدون عائد يذكر على الاقتصاد الوطني أو مستوى الطلب المحلي فيه، أو القيمة المضافة المولدة به .. الخ، هذا ما توحي به صيغة السؤال.
بالنسبة لي، لا أعتقد أن هناك مشروعا يمكن تنفيذه بنسبة 100% من خلال الاعتماد على الخارج، فدائما ما ستكون هناك نسب للمساهمة المحلية، نظرا لأن هناك بعض السلع التي لا يتم الاتجار فيها Non-tradables، ولابد وأن يتم توريدها محليا، مثل الكهرباء على سبيل المثال، ومع ذلك فما زال هذا السلوك من قبل الحكومة، من وجهة نظري، يحمل آثارا ايجابية على الاقتصاد الوطني للدولة، حتى وان تم بالصورة التي ذكرتها في السؤال، إن لم يكن الآن، ففي المستقبل بعد تنفيذ المشروع وبدء دخول المشروع مرحلة العمل الفعلي، دعني أوضح لك بعض التفاصيل:
أولا: إن أي مناقصة لا بد وأن ترتبط بمشروع، والمشروعات نوعان، إما مشروعات ذات طبيعة إنتاجية أو مشروعات ذات طبيعة خدمية. المشروعات الإنتاجية مثل مناقصة لإنشاء مصفاة للنفط، والمشروعات الخدمية مثل شق طريق أو بناء مستشفى أو مدرسة.. الخ، وكافة المشروعات التي يتم إنشاءها، سوء أكانت إنتاجية أم خدمية، تضاف إلى رصيد الأصول الرأسمالية التي يملكها الاقتصاد الوطني Capital stock، وهو أمر مهم جدا لأي دولة في العالم أن يتزايد هذا الرصيد بشكل مستمر، لأنه ببساطة المحدد الرئيسي لقدرة الدولة على الإنتاج والنمو في المستقبل، وبالتالي فإن أي إنفاق استثماري تقوم به الدولة يؤدي إلى رفع رصيد رأس المال في هذه الدولة، ومن ثم يرفع من قدرتها على الإنتاج والنمو سواء الآن أو في المستقبل. مشكلتنا الأساسية في الدول النامية أننا لا نقوم بعمل الإنفاق الاستثماري الكافي لتكوين رصيد رأس المال المناسب للانطلاق، إما بسبب أنه لا توجد لدينا كميات الأموال اللازمة لذلك، مثلما هو الحال في معظم الدول النامية ذات الدخل المنخفض، أو لأن هذه الأموال تتواجد لدينا بالفعل ولكننا لا نقوم بالاستثمار بالمستويات اللازمة لرفع تنافسيتنا الدولية ووضع اقتصادياتنا على خارطة الدول الناشئة، كما هو الحال في الدول ذات الدخل المرتفع مثل الكويت. عندما تنظر إلى هياكل الإنفاق في الدول الناشئة التي بدأت بالفعل رحلة الانطلاق والنمو، مثل الصين، سوف تجد خاصية مشتركة بين هذه الدول وهي ارتفاع معدل الإنفاق الاستثماري إلى الناتج المحلي الإجمالي. على سبيل المثال يصل هذا المعدل حاليا في الصين إلى حوالي 50%، بينما لا يتجاوز معدل 15%-20% إلى الناتج المحلي الإجمالي في الكويت. نحن إذن لا نقوم بالاستثمار عند المعدلات المطلوبة، ونحن في حاجة إلى هذا الإنفاق الاستثماري بغض النظر عن من سيقوم بتنفيذه، سواء أكانت شركات محلية أم شركات أجنبية، وبموارد محلية أم موارد مستوردة من الخارج، المهم هو رفع رصيد رأس المال المحلي إلى المستويات المطلوبة لانطلاقنا اقتصاديا وتنويع هياكل اقتصادياتنا بعيدا عن النفط الخام.
ثانيا: مما لاشك فيه أن أي مشروع إنتاجي سوف يترتب عليه آثار مباشرة تتمثل في زيادة القيمة المضافة في الاقتصاد الوطني، ومن ثم رفع مستويات الناتج والنمو والتوظف فيه، وعلى ذلك فإنه حتى وإن تم إرساء المشروع على شركات أجنبية، ولم يترتب على إرساء المناقصة زيادة في الطلب من قبل هذه الشركات على المنتجات المحلية بسبب قيامها بجلب مستلزماتها من الخارج، حيث لا تنفق الشركة أموال في السوق المحلية حتى على الطعام، كما أنها تقوم بتحويل ملايين الدنانير إلى الخارج، فإن مثل هذه المناقصات سوف يترتب عليها زيادة في معدلات الناتج والنمو والتوظيف لاحقا، مع زيادة حجم الأصول الإنتاجية المحلية في الدولة، وعندما يتم تشغيل هذه المشروعات الإنتاجية في المستقبل.
ثالثا: مما لا شك فيه أن أي مشروع خدمي سوف يؤدي بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى خلق قيمة مضافة في الاقتصاد الوطني، على سبيل المثال فإن شق طريق سوف يرفع من مستوى الإنتاج والاستثمار في الاقتصاد الوطني لأنه يسهل عملية إنتاج وتوزيع السلع والخدمات، أما المستشفى فانه يؤدي إلى خلق قيمة مضافة بشكل مباشر في صورة قيمة الخدمات الصحية التي سيتم تقديمها من خلال المستشفى، وبشكل غير مباشر في صور رفع نوعية قوة العمل الوطنية .. الخ، هذه وغيرها من المشروعات تشكل أساس البنية التحتية اللازمة للنمو، وهي من المحددات الأساسية للتنافسية الدولية لدول العالم اليوم.
رابعا: أن أي مشروع يتم إنشاؤه عادة ما يكون له ما يسمى بالروابط الأمامية Forward linkages، والروابط الخلفية Backward linkages، مع القطاعات أو المشروعات الأخرى في الاقتصاد، ويقصد بالروابط الأمامية جميع المعاملات التي ستقدمها المشروعات الإنتاجية والخدمية القائمة بالفعل في الاقتصاد لمثل هذا المشروع الجديد (على سبيل المثال مد المشروع بمستلزماته من المواد الخام والسلع الوسيطة)، ومما لا شك فيه أن ما ستقدمه المشروعات القائمة لمثل هذا المشروع الجديد من سلع وخدمات يدخل في نطاق حسابات الناتج المحلي الإجمالي. أما الروابط الخلفية فهي جميع المعاملات التي سيقدمها المشروع نفسه للمشروعات الأخرى القائمة في الاقتصاد (أي السلع والخدمات التي سيقدمها المشروع لمشروعات أخرى يعتمد إنتاجها عليه)، ومرة أخرى فإن مثل هذه المعاملات تدخل في حسابات الناتج المحلي الإجمالي. مثل هذا الاعتماد المتبادل بين القطاعات يترتب عليه في حال إنشاء أي مشروع جديد زيادة في القيمة المضافة في المجتمع ومن ثم رفع مستويات النمو فيه.
خامسا: إن أي مشروع يتم إنشاؤه لا بد و أن يولد تيارا من التدفقات النقدية من الدخول في المستقبل، وعادة ما نقوم بحساب القيمة الحالية لهذه التدفقات النقدية المستقبلية، أو ما يطلق عليه في دراسات الجدوى بمصطلح القيمة الحالية للمشروع، وذلك للحكم على مدى جدوى المشروع من عدمه، وهذه التدفقات النقدية تمثل تيارات كامنة للإنفاق والدخل في الاقتصاد في المستقبل.
سادسا: ليس من المتوقع أن كل مشروع سوف يتم تنفيذه من قبل الحكومة ان تكون هناك مشاركات محلية في تنفيذه، لأنه في بعض الأحيان قد لا تتوافر للشركات المحلية القدرة على المشاركة في تنفيذ المشروعات المزمع الاستثمار فيها من قبل الحكومة، على سبيل المثال لو افترضنا أن الحكومة بصدد تنفيذ مشروع لبناء محطة طاقة نووية، مثل هذا المشروع سوف يتم تنفيذه في معظم دول العام، وليس الكويت فقط، بواسطة الشركات الدولية المتخصصة في هذا النوع من النشاط وبمشاركة محلية محدودة جدا، يعتمد الأمر على درجة تطور الدولة واستعدادات قطاع الإنشاء فيها... الخ.
ماذا يعني ما سبق؟ إن ذلك يعني أن المطلوب من الحكومة اليوم عدم التوقف عن الإنفاق والاستثمار حتى وان كان على الصورة التي أشرت إليها، فمثل هذا الإنفاق كفيل برفع رصيد رأس المال سواء الإنتاجي أو الاجتماعي، وهو ما يخلق تيارات من التدفقات بين القطاعات المختلفة، والتي تؤدي إلى رفع مستويات النمو والناتج والدخل وبالتأكيد مستويات التوظف، إن لم يكن الآن، ففي المستقبل.
هذا طبعا لا ينفي أن هناك اشتراطات أساسية لا بد وأن تأخذها الحكومة بعين الاعتبار عندما تقوم بالإنفاق الاستثماري، فمن المؤكد أنه من المفضل عندما تقوم الحكومة بعمليات إرساء مثل هذه المناقصات ان تحاول تعظيم الآتي:
- نسبة ما سيتم امتصاصه محليا من الإنفاق الحكومي على المناقصات، حتى ترتفع مستويات النمو في الطلب الكلي المحلي الناجم عن مثل هذا الإنفاق على هذه المناقصات.
- نسبة ما سيتم توريده محليا من سلع ومواد لمثل هذه المشروعات التي ستجرى المناقصات لها لرفع درجة الروابط القطاعية الأمامية والخلفية في الاقتصاد الوطني.
- نسبة ما سيتم توظيفه من عمالة وطنية في مثل هذه المشروعات سواء الآن أو في المستقبل.
- مدى قوة الروابط بين هذا المشروع والقطاعات الإنتاجية القائمة بالفعل في الاقتصاد الوطني، أو ما سيولده هذا المشروع من روابط.