تطرَّق الأستاذان الدكتور حمزة السالم والأستاذ محمد آل الشيخ إلى هيئة الاستثمار بمقالين بجريدة الجزيرة، قرأ كل واحد منهما واقع هيئة الاستثمار من خلال ما استند إليه من معلومات. وبين النظرة الإيجابية والمثالية لقراءة الدكتور السالم والسلبية التي دلل عليها آل الشيخ بحقائق وقرائن يبقى تحليل وتقييم مسيرة عمل هيئة الاستثمار يتطلب جهداً كبيراً، وأن يقوم على منهج علمي؛ لأنه في النهاية تقييم لجهة حكومية يفترض أنها تعمل وفق سياسة ومنهج يتبع الاستراتيجية الاقتصادية المعتمدة في تحقيق التنمية المستدامة ورفع مستوى دخل ومعيشة المواطن.
وفي برنامج خواطر للأستاذ أحمد الشقيري قبل يومين صور لنا تجربة ماليزيا بصناعة السيارات، وتحدث المسؤول بالمصنع عن دور الشريك الياباني كيف قام بتدريب العمالة المحلية، وأنه سيرحل بعد عامين ليكون هناك فريق ماليزي يقوم بكل الأعمال ويوجد الحلول في صناعة مهمة نحلم بأن نراها على أرضنا. ومن تجارب الآخرين تستطيع أن تنطلق بتقييم دور جهة كهيئة الاستثمار؛ كونها معنية بجذب الاستثمارات للمملكة وفق احتياجات السوق والاقتصاد على الأصعدة كافة.
فأغلب الاستثمارات الكبيرة التي ضخت منذ سنوات بالقطاعات الصناعية أتت من أرامكو وسابك ومعادن والعديد من الشركات الوطنية الكبيرة عبر شراكاتها مع شركات عالمية كبيرة، ولم نسمع عن مشروع أجنبي قادم برؤوس أموال ضخمة في مجالات يحتاج إليها الاقتصاد الوطني عن طريق هيئة الاستثمار؛ فكما ذكرت صناعة السيارات في ماليزيا فإننا لم نجد مشروعاً مشابهاً لدينا، كما لم نسمع عن شركات قدمت لتصنيع قطع الغيار سواء لاحتياجات المباني أو المركبات والأعمال الكهربائية والميكانيكية عموماً بالرغم من حجم الطلب الكبير في السوق المحلي؛ فبند الصيانة بميزانية الدولة يأخذ قرابة الثلث منها سنوياً؛ فلماذا لم يتم التركيز على سد احتياجات الإنفاق الحكومي من خلال توطين صناعات تؤمّن جُلّ احتياج السوق؟
كما لم نسمع عن استثمارات بالمجال الصناعي سواء التعديني وغيره من مواد البناء أو حتى النسيجية؛ حيث نستورد كامل احتياجنا من الخارج، في الوقت الذي يتم فيه تصنيع المواد الرئيسية محلياً التي تُستخرج من منتجات بتروكيماوية. ورغم أن سوق المملكة الأكبر في الشرق الأوسط للطلب على أجهزة الحاسب الآلي ومستلزماتها إلا أننا أيضاً لم نشاهد مصنعاً واحداً يفتتح بالمملكة يخدم قطاع الصناعات التكنولوجية بمختلف أنواعها الممكن توطينها محلياً، بينما اقتصرت النسب الكبرى من التراخيص على المشاريع الصغيرة.
وهنا لا بد من القول إن المملكة لا تحتاج إلى سيولة من الخارج؛ فالمعروض النقدي يفوق التريليون في المصارف التجارية، واحتياطي الحكومة يفوق 1600مليار ريال، ومثل هذه الظروف توضح بشكل جلي أننا بحاجة إلى نوع وليس كم من المستثمرين الأجانب، ولا توجد مشكلة بأن يتم تحديد رؤوس أموال بعض الاستثمارات بمليوني ريال، ولكنّ الأهم هو ما هي؟ وماذا ستضيف للاقتصاد؟
فقد تم الترخيص لمقاولين كانوا يعملون في مؤسسات صغيرة، وجُلّهم لا يحملون مؤهلات علمية بل خبرات مكتسبة من السوق السعودي، وقاموا بسحب أغلب عملاء مؤسساتهم السابقة بحسب ما قاله لي صديق تضرر من خروج موظف لديه ليصبح مقاولاً منافساً، وبدأ هؤلاء المستثمرون باستصدار تأشيرات وبيعها بل والقيام بتستر من نوع آخر؛ حيث يقوم بإعطاء عمالته بعض الأعمال مقابل نسبة معلومة.
الأمر الآخر هو بائعو الحديد الذين ضُبط بعضهم يقوم بأعمال التخزين خلال أزمة الحديد الأخيرة قبل أشهر عدة، أي أنك تأتي بمصيبة إضافية للسوق، والبعض يقوم بتزوير شهادة منشأ بضاعته من الحديد المستورد، فهل كنا بحاجة إلى مقاول صغير يزاحم مؤسساتنا الوطنية الصغيرة دون أن يضيف سوى مزيد من العاطلين وإفلاس بعض هذه المؤسسات؟ ما القيمة التي نجنيها من مستثمرين لا يحققون أية قيمة مضافة بالاقتصاد؟ هل نعاني نقصاً بمؤسسات مقاولات كبيرة أم صغيرة؟ وإذا كنا نعيش اليوم طفرة كبيرة في حجم المشاريع أليس من الأجدى إغراء شركات عالمية تقوم بإدخال مفاهيم مختلفة لسوق الإنشاءات كتقليص حجم استهلاك المواد وإدخال تقنيات تطيل من عمر المباني وترفع من جودتها؟ ألم يكن الأفضل إدخال مصانع لإنتاج الحديد بمختلف أنواعه بدلاً من الترخيص لبائعين؟..
هذا بخلاف المشاريع الخدمية التي قرأنا عنها كمطاعم وغيرها، والتي تمتلئ المدن بها؛ فلا بد من إعادة النظر في الكثير من التراخيص الممنوحة، والمساهمة بدعم الشباب السعودي على إنشاء وتأسيس المشاريع الصغيرة وتركها لهم وإبعادها عن محفظة الاستثمار الأجنبي، بل وإعادة النظر بما هو قائم، وإلغاء ما لا يحتاج إليه السوق منها.
من الإنصاف القول إن الهيئة نجحت في وضع قدم المملكة بين مصاف الدول الأولى عالمياً من حيث التنافسية، وذلك وفق تقليص مدة إجراءات التراخيص للمستثمر الأجنبي، ويُعدُّ هذا إنجازاً جيداً كونه يغري رأس المال بالقدوم بخلاف - طبعاً - تقديم ما تمتلكه المملكة من مميزات اقتصادية سواء بحجم سوقها أو بثرواتها وبمكانتها العالمية والجغرافية وبأمنها؛ فكل الظروف مهيأة لنجاح أي استثمار يدخل للسوق المحلي.
ولعبت الهيئة دوراً إيجابياً في تنفيذ سياسة المملكة الاقتصادية بتحقيق تنمية مستدامة وموزعة على المناطق كافة من خلال المدن الاقتصادية التي تُنفّذ حالياً، ومعروف أن هذه المدن مشاريع صعبة وطويلة الأجل وتحتاج إلى جهود كبيرة وتتعرض إلى مطبات وعثرات في مسيرة إنجازها، لكنها تبقى هدفاً استراتيجياً مدعوماً بشكل كبير من الحكومة، وستوظف استثمارات كبيرة وتفتح فرص عمل ضخمة وتنتقل معها أسر للعيش بها وتصبح بيئة جديدة بين مدننا، وهناك سابق تجربة، وهي ناجحة بامتياز، في مدينتي الجبيل وينبع؛ فخلال ثلاثين عاماً أصبحت مدن صناعية تحوي مئات المليارات من الاستثمارات، ويعيش فيها آلاف الأسر.
دور هيئة الاستثمار لدينا يتطابق مع نظيراتها بأي دولة من حيث ترتيب الإجراءات وتسهيل السبل كافة لتوفير المناخ الملائم لجذب الاستثمار الأجنبي، ولكن يختلف في أننا لا نحتاج إلى أي استثمار؛ فسوقنا واضح من ناحية الاحتياجات، وإذا لم تستطع هذه الاستثمارات لعب دور حيوي في رفع الطاقة الاستيعابية للاقتصاد ولم توفر فرص عمل للشباب المتعلم وتحقق لنا تقدماً نسبياً في تطوير صناعاتنا وتوطين التقنية فإنها ستكون عديمة الجدوى؛ وبالتالي لن تحقق سوى مزيد من استنزاف الأموال المحلية للخارج وزيادة بالبطالة وعدم تحقيق الاقتصاد كفايته من الإنتاج وانفراد المستثمر الأجنبي بالفائدة دون أدنى انعكاس على الاقتصاد الوطني.