تناولت مقالة الأسبوع الماضي حرص خطة التنمية التاسعة على تطوير القطاع المالي عموما، والتركيز على تنمية دور رأس المال الجريء لتجسير فجوة تمويل المشروعات الناشئة التي تفتقد إلى ضمانات تسهل عليها الحصول على التمويل اللازم للنمو والتطور، ولحيازة المشروعات المتعثرة وتطويرها، حيث تأخذ مكانا ضمن منظومة الاقتصاد الوطني المبني على المعرفة والابتكارات. ويشير الجزء الخاص بتنمية الدور التمويلي والاستثماري لرأس المال الجريء في خطة التنمية إلى ارتباط هذا المجال التمويلي والاستثماري بخطط وأهداف تنموية أخرى، حيث تمت الإشارة إلى استهداف الخطة لتحفيز الشراكة بين الاستثمارات الخاصة الوطنية والأجنبية في مجال إنشاء شركات رأس المال الجريء بجانب تذليل المعوقات التنظيمية التي تحد من إسهاماتها في تنمية الخدمات المالية في المملكة. إذن، وفرت خطة التنمية هيكلا واضحا لشركات رأس المال الجريء يتمثل في الاعتماد على القطاع الخاص لتنميته بعيدا عن التدخل الحكومي بإنشاء مثل هذه الشركات باستثناء توفير البنية التنظيمية والتشريعية والقانونية التحتية، التي تسهل إنشاء هذه الشركات. وهذا التوجه المعتمد على القطاع الخاص منطقي، خصوصا أن استثمارات رأس المال الجريء تتميز بارتفاع المخاطرة ووجود هدف ربحي واضح ومُلح يتمثل في النمو، سواء بتحسين التدفقات النقدية أو التطوير؛ للوصول إلى أهداف الاستثمار وتحقيق استراتيجية الخروج التي يتم الإعداد لها مسبقا في مرحلة إعداد خطة العمل لرأس المال الجريء، إضافة إلى كون القطاع الخاص المستثمر في شركات رأس المال الجريء غالبا ما يتمتع بالمرونة والقدرة على الصبر لفترات أطول. بيد أن المهم التركيز عليه عند تحديد القطاع الخاص كمحرك لشركات رأس المال الجريء هو كون استثمار رأس المال الجريء يرتبط بالجدوى مقارنة بأوجه الاستثمار الداخلية الأخرى لرأس المال المحلي وفرص الاستثمار البديلة إقليميا وعالميا لرأس المال الأجنبي.
ومن ثم تقوم الخطة بمحاولة إبراز دور تكاملي لتوجهها نحو تحفيز رأس المال الجريء حين تشير إلى ''... وتوفر ''حاضنات الأعمال التقنية'' البيئة المثلى لقيام ونجاح شركات رأس المال الجريء، حيث يتم استثمار رؤوس الأموال في تحويل الأفكار والابتكارات الصناعية الجديدة إلى سلع ومنتجات تخدم السوقين المحلية والأجنبية...''، أي أن الفكرة التي تريد إيصالها الخطة هي أن حاضنات الأعمال التقنية التي تعتبر جزءا من خطة التنمية الصناعية، وبالأخص المدن الاقتصادية وأودية وواحات التقنية التي انتشرت أخيرا وارتفعت جعجعتها هي أوعية تتضمن الكثير من الأفكار والابتكارات الصناعية التي تنتظر رأس المال الجريء؛ لكي تتحول إلى سلع ومنتجات تجارية، كما حصل مع ''مايكروسوفت'' و''جوجل'' و''فيس بوك'' وغيرها من شركات التقنية ''والدوت كوم'' في دول العالم التي استفادت من رأس المال الجريء في فترات النمو. بصراحة، ليس هناك أي مأخذ على هذا الجزء من الخطة من ناحية نظرية، أما من ناحية تطبيقية فهو قد يعتبر نوعا من التفكير بالتمني أخذا في الحسبان وضع حاضنات التقنية في جميع المدن والأودية والشعاب الاقتصادية الحالي، ولكون بروز الأفكار والمخترعات التي غالبا ما تكون هدفا إلى استثمارات رأس المال الجريء تتضمن مصروفات وتكاليف أولية ترتبط بعملية البحث والتطوير لحين نضوج نموذج الفكرة وتحولها إلى استثمار واعد من ناحية النمو والعائد مقاسا بالمخاطرة. لذلك، فإن قيام رأس المال الجريء باتخاذ قرار الاستثمار يرتبط بتقييم الاستثمار المتاح مقارنة بالخيارات الأخرى محليا وإقليميا وعالميا ضمن نفس نطاق نشاط الاستثمار وبين النشاطات والقطاعات المستهدفة من قبل رأس المال الجريء. فعلى سبيل المثال، قد تقارن شركات رأس المال الجريء بين العائد موزونا بالمخاطرة لاستثمار في إحدى أفكار حاضنات التقنية مقارنة بالاستثمار في إعادة هيكلة شركة تتمتع بنموذج نجاح واعد ولكن ينقصها رأس المال العامل ويستطيع رأس المال الجريء توفير ميزات عمل تؤدي إلى رفع الكفاءة والتنافسية والوصول إلى الربحية. هنا قد تعرض شركات رأس المال الجريء عن الاستثمار في أفكار الحاضنات؛ نظرا لصعوبة مقاومة إغراء نماذج الأعمال الناجحة الأخرى كإعادة هيكلة الشركات التي تفتقد فقط إلى القفزة الأخيرة لكي تسير على خطى الربحية والنجاح. وللوصول إلى توقعات علمية هنا، من المهم القيام ببعض الأبحاث على كل الخيارات المتاحة أمام رأس المال الجريء لمعرفة التوجهات المستقبلية والقطاعات المرشحة لأن تكون هدفا لشركات وصناديق رأس المال الجريء.
كما أن قراءة سريعة إلى النشاطات الحالية لشركات وصناديق رأس المال الجريء تشير إلى تفوق إمارة دبي ومملكة البحرين، وتأتي بعدهما الكويت كمقر لهذا النوع من النشاطات الاستثمارية والتمويلية. وتتميز هذه الشركات والصناديق الخليجية بعدة صفات، منها قلة اعتمادها على التسهيلات البنكية والاقتراض واتكائها بالدرجة الأولى على المستثمرين الأساسيين، كثافة مشاركة رؤوس الأموال السعودية في هذه الشركات والصناديق، وندرة الحرفيين السعوديين العاملين في هذه الشركات مقارنة بنظرائهم الأجانب. وقد تكون الصفة الأولى بانخفاض الاقتراض منطقية لارتفاع معامل مخاطرة استثمار هذه الشركات والصناديق، وهو ما يميزها عن صناديق التملك الخاص التي تعتمد بشكل أكبر على التسهيلات في عمليات الحيازة والاستحواذ الممول، أو ما يسمى LBO. أما الصفة الثانية لصناديق وشركات رأس المال الجريء والمتمثلة في كثافة مشاركة رؤوس الأموال السعودية فهذا شيء متوقع، خصوصا مع كون الاقتصاد السعودي يشكل نحو نصف اقتصادات دول الخليج، ولكون الفرص الاستثمارية والسوق السعودية هي الأكبر خليجيا بجانب حرص المستثمرين السعوديين على تنويع محافظهم الاستثمارية ضمن درجات مخاطرة مختلفة وفي مناطق جغرافية وأنماط استثمار متفاوتة تقلل من حجم المخاطرة وقت وقوع المخاطر النظامية أو المتزامنة. أما الصفة الثالثة المتمثلة في ندرة السعوديين العاملين في شركات وصناديق رأس المال الجريء في المملكة أو دول الخليج فهو أمر غريب، خصوصا أن جزءا كبيرا من الاستثمار في هذه الشركات والصناديق هو استثمار سعودي والسوق المستهدفة لهذه الشركات هي السوق السعودية، إضافة إلى أن المهارات المطلوبة من قبل هذا النوع من الشركات لا تختلف كثيرا عن مهارات مديري الاستثمار وإدارة الأصول والمصرفية الاستثمارية وإن بتوليفة مخاطرة أكبر ومع قرون استشعار أكبر للفرص الواعدة بالنمو السريع. أي أن بالإمكان توظيف مديري استثمار وباحثي استثمار سعوديين من البنوك الاستثمارية بكل يسر وسهولة وإيضاح مستوى المخاطرة والعائد الجديد المستهدف.
وختاما، من الجيد حرص خطة التنمية التاسعة على تطوير وتنمية قناة الاستثمار والتمويل المبنية على نشاطات شركات وصناديق رأس المال الجريء؛ نظرا لكون نشاطاته ستغطي المشاريع التي تقع في ظل مخاطر الائتمان المرتفعة تقليديا والتي يوجد بها كل ما يشير إلى النمو والنجاح إذا ما أعطيت فرصة بناء على فرضيات اقتصاد المعرفة والاقتصاد الجديد الذي لا يربط بين النمو والتوقعات المستقبلية برابط خطي ثابت، بل بعلاقة متسارعة ومتضاعفة لا تلتفت إليها إلا قرون الاستشعار التي تستطيع تحويل الفرصة إلى استثمار متحقق ونمو وعوائد تتفوق على الخيارات الأخرى المتاحة.