تابعت الأسواق باهتمام ندوة "جاكسون هول" نهاية الأسبوع الماضي، والتي تجمع سنوياً نخبة من أهم صانعي السياسة النقدية حول العالم، وبالرغم من أنه لا تصدر قرارات عن هذه الندوة التي مرت بمنعطفات تاريخية، إلا أن أهميتها الكبيرة تكمن في الخطابات التي يلقيها رؤساء البنوك المركزية، والتي ترسم في العادة معالم السياسات النقدية المقبلة، وهو أمر محرك بقوة للمستثمرين في زمن التحولات الدراماتيكية في أسعار الفائدة، وغلق صنابير المال الرخيصة، وغلبة المخاطر الجيوسياسية على العوامل الفنية في السوق.
تاريخياً، وضع رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأسبق بول فولكر، جاكسون هول على الخريطة الاقتصادية، فأدرك المستثمرون أن ما يحدث خلالها، حتى لو كان ملفوفًا في نظرية اقتصادية مخدرة للعقل، هو أمر مهم جداً، ومع التئام الندوة السنوية الخامسة والأربعين، أصبح رئيس الاحتياطي الفيدرالي الحالي جيروم باول تحت العدسة المكبرة، حيث تبحث الأسواق عن تلميحات حول طريقة تعامل البنك المركزي الأمريكي مع أعلى معدل تضخم منذ ندوة عام 1982 الرائدة.
جلبت أربع ندوات سابقة محافظي البنوك المركزية ووزراء المالية مرتين إلى مدينة كانساس ومرة واحدة إلى دنفر وفيل، لمناقشة السياسات الزراعية، وفي عام 1982، تم توسيع الآفاق لتشمل قضايا السياسة النقدية، فقد كانت هناك حاجة إلى بنك فولكر الفيدرالي الذي ظل على مدى ثلاث سنوات موجعة يحاول إخراج الاقتصاد من فترة مؤلمة من التضخم والبطالة المرتفعة.
بحلول ندوة 1982، تباطأت زيادات الأسعار، لكن معدل البطالة بلغ حوالي 10٪، وكان الأمريكيون يعانون من ركود مزدوج، وقد احتاج فولكر للإجابة عن هذا السؤال، وكتب الخبير الاقتصادي إدوارد جيه كين في ورقة بحثية في ذلك العام: "التعهدات القوية للاحتياطي الفيدرالي بمواصلة محاربة التضخم تلقى اليوم شكوكًا كبيرة بحيث لا يكون لها تأثير كبير على التوقعات العقلانية للتضخم"، وكتب جيمس توبين، الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل من جامعة ييل، خلال الندوة مقال في الواشنطن بوست بعنوان "أوقفوا فولكر عن قتل الاقتصاد".
لم يكن لفولكر دور رسمي في الندوة للرد على منتقديه، لكنه ضحك أخيرًا لأنه نجح في ترويض التضخم في نهاية المطاف، مما ساعد على إحداث تمزق في الاقتصاد وسوق الأسهم، وتمت دعوته مرة أخرى إلى جاكسون هول في عام 1990، كرئيس سابق لمجلس الاحتياطي الفيدرالي لحضور اجتماع تاريخي بين الشرق والغرب، وكان الستار الحديدي قد سقط للتو قبل أشهر، ومع وجود أحلام تلوح في الأفق باقتصاد عالمي متكامل، استقبلت الندوة لأول مرة ممثلين من ثماني دول في الكتلة الشرقية، بما في ذلك الاتحاد السوفيتي.
بحلول عام 1997، أصبح جاكسون هول جزءًا منتظمًا من دورة الأخبار وحدثًاً يحرك الأسواق، واكتشف ذلك رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي ألان جرينسبان عن غير قصد، فأثناء مناقشة الأزمة المالية المستمرة في تايلاند، ذكر جرينسبان تجربتي المكسيك وتايلاند، وكان يشير إلى أزمة البيزو المكسيكية قبل ثلاث سنوات، وقد أثارت تعليقات جرينسبان هبوطًا في سوق الأسهم المكسيكية، مما أجبر موظفي بنك الاحتياطي الفيدرالي على طمأنة العالم بأن رئيسهم كان يشير إلى عام 1994، وليس اليوم.
بعد ذلك بعامين، قدم اثنان من الأكاديميين بحثًاً في ندوة جاكسون هول يطالبان فيه باستهداف التضخم المرن، والذي من شأنه أن يوفر إطارًا موحدًا لواضعي السياسة النقدية خلال الأوقات العادية، وتخفيف الأزمة، والواقع، أن بن برنانكي كان يواصل اختبار تلك الأفكار كرئيس للاحتياطي الفيدرالي خلال أزمته المالية بعد ما يقرب من عقد من الزمان، والواقع، أن بعض الموضوعات تعد أكثر إثارة لمحافظي البنوك المركزية، فقد أصيب منظمو جاكسون هول بخيبة أمل بسبب الاستجابة الأولية لندوة 2007، التي جاءت تحت عنوان: "تمويل الإسكان والسياسة النقدية"، حيث اندلعت بعدها أزمة الرهن العقاري، وإذا كان جرينسبان قد أثار عمليات بيع في السوق، فقد أطلق بيرنانكي موجة صعود استمرت ثمانية أشهر في عام 2010 عندما استخدم ملاحظاته الافتتاحية لمناقشة "التأثير الكمي لعمليات شراء الأوراق المالية"، معلناً بشكل أساسي ما أصبح يعرف بالتسهيل الكمي، ومنذ ذلك الوقت يستخدم الاحتياطي الفيدرالي تكتيك شراء السندات لدعم الأسواق.
في الندوة الحالية، حرص رئيس الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول، عبر خطاب قصير من خمس صفحات، حرص على إيصال رسالة صريحة مفادها أن الفيدرالي سيظل في مهمة خفض التضخم حتى يتم الانتهاء منها، وأن لديه تركيز شامل لإعادة التضخم إلى هدفه البالغ 2٪، ولكن، المعركة ستكون مكلفة على مستوى الوظائف والنمو، والواقع، أن تصريحات باول كانت متشددة للغاية، فالرسالة التي حاول نقلها هي أن سوق العقود الآجلة تتوقع خفض أسعار الفائدة في عام 2023والفيدرالي لا يحب ذلك ولا يفضله، ونعتقد أن خطاب باول يشير إلى موسم آخر به تقلبات شديدة، فهناك المزيد من الآلام التي ستواجه الشركات والأسر، وبذلك، فإن البروفيسور باول يجهز الأسواق لتحسب احتمالية الركود، وفي الطريق إلى الركود يجب أن تحذر المخاطر، وأن تكون متنوعًا في محفظتك الاستثمارية، وأن يكون لديك رؤية طويلة الأجل، ومع استمرار ارتفاع الفائدة، ينبغي على المستثمرين التخطيط للحماية من التضخم الذي قد يستمر لمدة عام أو عامين على الأقل.
خاص_الفابيتا