أمريكا.. والإفلات من فخ التضخم

07/07/2022 1
د. خالد رمضان عبد اللطيف

ما الذي يمكن أن تتعلمه الولايات المتحدة من السوابق التاريخية للتضخم؟، وكيف يمكنها الإفلات من هذا الفخ الذي يلتهم بشراسة دخول الأسر ويدمر أرباح الشركات، بعدما تسبب ظهور الجائحة قبل عامين في تدمير الطلب، عندما ألغى المصنعون وتجار التجزئة الطلبيات، دون معرفة منهم بما سيحدث في المستقبل، ولكن مع ضخ الاحتياطي الفيدرالي شيكات التحفيز في جيوب المستهلكين تشجعوا للإنفاق على السلع والخدمات، بل والادخار أيضاً، حتى وصل التضخم إلى أعلى مستوياته خلال أربعة عقود.

وقد يكون من المناسب الآن أن نستعرض هذه السوابق للاسترشاد والتأمل، فقد كانت النوبة الأولى للتضخم خلال الحرب العالمية الأولى، والذي تمت السيطرة عليه عندما رفع بنك الاحتياطي الفيدرالي الجديد سعر الفائدة من 3.75٪ إلى 4.5٪ بين نوفمبر 1917 وأبريل 1918، ثم مرة أخرى إلى 7٪ بين أكتوبر 1919 ويونيو 2020، وأدى ذلك إلى ركود قصير ولكنه عميق للغاية مصحوبًا بانكماش كبير، واعتقد الاقتصاديون وقتها أن الاحتياطي الفيدرالي تحرك متأخرًا جدًا، إذ كان يجب أن يبدأ رفع أسعار الفائدة قبل عام أو أكثر، لكنه تحرك بعيدًا جدًا عندما تحرك.

أما النوبة الثانية، فقد ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، حيث بلغ التضخم ذروته عند 19.7 ٪ حتى مارس 1947 بعدما أعاد الاقتصاد الأمريكي توجيه نفسه من وقت الحرب إلى التكوين الهيكلي لما بعد الحرب، فعادت مصانع السلع الاستهلاكية والسيارات لأنشطتها، فارتفعت الأسعار والأجور في القطاعات التي كان الطلب عليها مرتفعًا، ولكن العرض كان مقيداً من أجل جذب الموارد، حينها لم يفعل الاحتياطي الفيدرالي شيئًا، و بدلاً من ذلك، ركز على دعم سندات الخزانة التي تم إصدارها لخوض الحرب، ليبلغ معدل التضخم 8 ٪ خلال العام التالي ثم انخفض في 1949، عندما داهم البلاد ركوداً طفيفاً. 

بمجرد تحول العرض لمطابقة نمط الطلب، اختفت الاختناقات وهبطت الأسعار، ثم جاءت الجولة الثالثة في عام 1951، وحينها بلغ التضخم ذروته عند 9.4٪، ووقتها كانت أمريكا تستعد لخوض الحرب الكورية، حيث قامت ببناء قدراتها العسكرية العالمية في السنوات الأولى من الحرب الباردة، ومرة أخرى، لم يفعل الاحتياطي الفيدرالي شيئًا، ومرت موجة التضخم بحلول مارس 1952 فقد كانت أقل من 2٪، وتم تجنب الركود حتى أواخر عام 1953، وبمجرد تحول العرض ليناسب نمط الطلب، اختفت الاختناقات مرة أخرى.

وجاءت النوبة الرابعة، والخامسة بين عامي 1966 و1984، فارتفع التضخم من 2٪ في بداية عام 1966 إلى 4.4٪ عند تنصيب ريتشارد نيكسون في يناير 1969، ثم ارتفع ثم انخفض خلال السبعينيات قبل أن يرتفع إلى ذروة 12.8٪ في مارس 1980، حينها تردد الاحتياطي الفيدرالي، وكان آرثر بيرنز، رئيس البنك من 1970 إلى 1978، مهتمًا جدًا بالحفاظ على اقتصاد قوي، بينما كان صديقه وراعيه نيكسون يترشح لإعادة انتخابه في عام 1972، ولم يكن يعتقد أن الكونجرس سيسمح له بالحفاظ على أسعار الفائدة مرتفعة بما يكفي لفترة كافية لعلاج التضخم من خلال السياسة النقدية، ولكن عندما أصبح بول فولكر رئيساً لمجلس الاحتياطي الفيدرالي تم رفع الفائدة إلى ذروتها بنسبة 16.9 ٪ في ديسمبر 1980، ولم يتم تخفيضها إلى أقل من 10 ٪ حتى أغسطس 1982.

لكن، السؤال المهم هو أي من هذه النوبات يشبه الوضع الحالي في بلاد العم سام؟، أعتقد أنهما النوبتان الثانية والثالثة من التضخم، في عامي 1947 و1951، فهما النموذجان الصحيحان لما يحدث الآن، وذلك لأن توقعات التضخم طويلة الأجل في سوق السندات لا تزال تتداول في نطاقها الطبيعي، فعلى المدى الطويل سيكون التضخم بحدود 2.5٪، ويبدو أن متداولي السندات يتوقعون زيادة طفيفة في التضخم على مدى العامين المقبلين، ونرى أنه بعد العودة إلى الوضع الطبيعي، فلن يكون هناك مبرر للضغط من أجل زيادات عالية في الأجور، لذلك فإن الأمل كبير في هبوط هادئ للأسعار دون تشوهات.

والحقيقة، أن هناك خطران قد يندلعان من الهبوط الصعب، أولهما أن تكون أزمة اليوم شبيهة بتلك التي حدثت في عام 1920، فقد أدى ذلك التضخم إلى ركود قصير وعميق، أما الخطر الثاني فهو أن تشبه النوبة الراهنة فترة السبعينيات من القرن الماضي، إلا أنه من الضروري تجاهل أي توقعات بحدوث دوامة تضخمية قبل أن تتشكل في الأفق، علماً بأن هناك حديث مستمر في وسائل التواصل الاجتماعي يذكر الوضع الأمريكي الحالي بسيناريو السبعينيات، وبعضهم يقترح التحوط ضده بإجراءات أكثر شدة، ولكننا نستبعد تكرار تضخم هذه الحقبة بحذافيره، ومع ذلك، فإن مخاطر الوضع الراهن هائلة، والأهم الآن، أن على جيروم باول ورفاقه في لجنة السياسة النقدية إدراك أن سوء التقدير، وعدم الاستماع إلى الإشارات الصحيحة سيكون مدمرًا.

 
 
 
خاص_الفابيتا