باول يبدّد يقين ديسمبر: خفض محكوم بالبيانات يكشف انقسام الفدرالي ويُعيد ضبط شهية المخاطرة

30/10/2025 0
أحمد عزام

في الأمسية التي اعتادتها الأسواق لتلقي «تعهدات لطيفة» بعد قرارات التخفيض، قطع جيروم باول هذا الخيط الرفيع: «خفضٌ إضافي في ديسمبر ليس أمرًا مفروغًا منه… بل بعيد عنه». بهذه العبارة القصيرة نقل رئيس الاحتياطي الفدرالي محور النقاش من «كم ستُخفَّض الفائدة؟» إلى «هل تسمح لنا البيانات أصلًا بمزيدٍ من التخفيف؟». لم تكن الـ25 نقطة أساس حدث اليوم؛ الحدث كان في إطفاء يقين المستثمرين وإشهار حالة «تبعية مشروطة للبيانات الغائبة بسبب الإغلاق الحكومي» وسط انقسام داخلي نادر، وبيئة إحصائية مُعتّمة بسبب الإغلاق الحكومي، وتوازن دقيق بين تضخم يأبى العودة سريعًا لهدف 2% وسوق عمل يتباطأ بلا انهيار.

سياسة بلا وعود: نهاية «التوجيه المُسبق» وبداية «المشهدية المشروطة»

أقرّ الفدرالي خفضًا ربع نقطة وأعلن نهاية التقليص الكمي مع مطلع الشهر المقبل، لكنه في الوقت نفسه رفض أن يمنح السوق قَسمًا سياسيًا مسبقًا بشأن ديسمبر. الرسالة المضمرة بسيطة ومعقّدة في آن: القرار التالي سيُبنى على تماس ثلاثي بين اتجاهات الوظائف، ومسار الأسعار، وتداعيات الإغلاق على جودة البيانات وتوقيتها. هذا الانحياز إلى المرونة المُنضبطة يضع نهاية عملية لمرحلة الطريق المرسوم أو مرحلة توقعات الأسواق ويُرجع السياسة إلى مقامها الطبيعي: قراءة متتابعة للإشارات لا تعهّدًا لمسارات. وبهذا، جرى تخفيف الإفراط في التسعير الذي افترض سلسلة تخفيضات متصلة، وإبقاء الاحتمال مفتوحًا لوقفة تكتيكية إذا بقي التضخم صلبًا أو تراجعت موثوقية المؤشرات الرسمية.

منحنى العائد يستجيب: قفزةٌ في القصير وتصلّبٌ حذر في الطويل

ردّ سوق السندات كان صاخبًا على الطرف القصير: عائد السنتين سجّل أكبر قفزة يومية منذ أشهر، في ترجمةٍ فورية لإعادة تسعير احتمال ديسمبر من «شبه مؤكد» إلى «مرجَّح لا مضمون». على الطرف الطويل، تماسك العشر والثلاثين عامًا يُفصح عن قلق أعمق من عناصر تضخمية خارج نطاق الفائدة وحدها—رسوم جمركية، دين عام مرتفع، وإنفاق بنيوي على سلاسل الإمداد والانتقال الطاقي—ما يُبقي علاوة الأجل متيقظة. هذه المفارقة (تشدّد قصير مقابل تصلّب طويل) تُنذر بمناخ تداولٍ تُكثِر فيه الصدمات الدقيقة: كل قراءة وظائف جزئية أو مسح أسعار إقليمي قادر على إزاحة التسعير عشرات النقاط أساسًا في ساعات.

الأسهم تُراهن على «جودة الربحية» لا على «رخص التمويل» وحده

في حين ارتفعت حرارة العوائد، بدت الأسهم أكثر برودًا؛ فالقيادة لم تعد حكرًا على خصم كلفة الرسملة، بل على قدرة الشركات—خصوصًا التقنية الثقيلة—على تبرير إنفاق رأسمالي هائل في الذكاء الاصطناعي بتحسّن ملموس في الهوامش والتدفق النقدي الحر. تقارير الربع كشفت فجوةً بين مقاربات اللاعبين الكبار: مَن قدّم مسارًا مقنعًا لتحويل الكابكس إلى مردود تشغيلي حافظ على ثقة السوق، ومَن راكم وعود بنى تحتية تأخّر تحويلها إلى أرباح فكان نصيبه ضغطًا على السهم رغم نمو الإيراد. الرسالة للمستثمرين واضحة: التقييمات العالية باقية ما دامت الأرباح قادرة على حملها، أما «الخصم المالي» فلن يعود مهيمِنًا ما لم تُظهر البيانات دورة تباطؤ أوضح في التوظيف والأسعار. وبما يخص فقاعة الذكاء الإصطناعي، أشار باول بأن الأساسيات تؤكد بأنها ليست فقاعة.

انقسام يُثبت الاستقلال: رفض وهم الإجماع واستعادة الحكم المهني

للمرة الأولى منذ سنوات، ظهر الاعتراض في اتجاهين: مَن أراد خفضًا أعمق بخمسين نقطة أساس دعمًا لسوق العمل، ومَن فضّل التثبيت خشية صلابة الأسعار. هذا ليس فقدان قبضـة بقدر ما هو كشف صحي عن تعددية مهنية داخل لجنة طالما اتُّهِمت بإدمان الإجماع الشكلي. تراجع الضجيج السياسي حول تشكيلة المجلس، وتثبيت أصوات مثيرة للجدل في مواقعها، أتاح للفدرالي أن يُبرهن بعض الشيء على أن الاستقلال ليس شعارًا مؤسساتيًا بل ممارسة: قطع متواضع، نقاش صريح، ولا وعودَ تُستدرج بها الأسواق إلى تسعير متهور.

خريطة عملية للمحافظ: أين يوضع الخطر… وأين يُستثمر الثبات؟

على الدخل الثابت، لم يعد تمديد المدة هدية مجانية؛ الميل إلى عشر سنوات يستلزم تحوّطات تكتيكية ضد مفاجآت التضخم، فيما يوفّر الطرف القصير فرص تدوير نشطة مع كل تحديث للبيانات. في الائتمان، الفوارق الضيقة تتطلّب انتقاء أكثر صرامة في الدرجة الاستثمارية وتواضعًا أكبر تجاه المخاطر العالية حيث حساسية التمويل ترتفع مع أي تشديدٍ مفاجئ في التوقعات. في الأسهم، يتقدّم «الاختيار داخل القطاع» على «اختيار القطاع» نفسه: شركات الذكاء الاصطناعي التي تُثبت انضباط رأس المال وقدرة تسعير تحافظ على الهوامش ستتفوق، بينما تتحول السرديات غير المصحوبة بنقد تشغيلي إلى عبءٍ على المضاعفات. أما المعادن الثمينة، فستبقى حسّاسة لتداخل سيناريوهَي «تباطؤ الوظائف» و«تصلّب الأسعار»: حمايةٌ معتبرة، لكن بتذبذبٍ أعلى بعد عامٍ استثنائي في الأداء.

قرار ضد اليقين… لصالح المرونة

اختار باول أن يُعيد السياسة إلى ميدانها الحقيقي: الاستجابة لما تقوله البيانات لا لما تتمناه الأسواق. إن جاءت مؤشرات الوظائف بهبوط منتظم وتراجعت حرارة الأسعار بوضوح، يصبح خفض ديسمبر مكمّلًا للحركة لا مقامرة عليها. وإن ثبت التضخم أو تعكّرت جودة الأرقام، تصبح وقفةٌ قصيرة علامةَ نُضج لا تردد. بين هذين الحدّين، سيُقاس المزاج المالي بميزانَين لا ثالث لهما: قدرة الشركات على تحويل استثمارات الذكاء الاصطناعي إلى ربح تشغيليّ صُلب، وقدرة السياسة النقدية على حماية سوق عمل يلين دون أن ينكسر. هناك فقط يتفوّق من يتقن إدارة عدم اليقين… لا من يُراهن على يقين لا يملكه أحد. وديسمبر أصبح موضع شك، لا يقيــــن...

 

خاص_الفابيتا