ترتكز السياسة الاقتصادية السعودية وفقا لبيان الميزانية 2022 على ثلاث ركائز رئيسة: أولها، ضمان استدامة المالية العامة بتنويع مصادر الإيرادات ورفع كفاءة النفقات. ثانيا، تمكين القطاع الخاص بتعزيز مساهمته في الاقتصاد الوطني، إضافة إلى المشاريع والبرامج التي تقوم بها الصناديق التنموية. ثالثا، تنفيذ تحولات هيكلية اقتصادية واجتماعية تعزز مرونة الاقتصاد وتؤمن له التفاعل السليم مع المتغيرات العالمية المتسارعة، ومن تلك التحولات الهيكلية الإنفاق على المشاريع الكبرى، وتأتي مبادرة السعودية الخضراء كتفاعل متناسب مع المتغيرات العالمية التي من شأنها إحداث تغيرات مناخية موائمة وبما ينعكس إيجابيا على مستوى جودة حياة المواطنين والمقيمين والخدمات المقدمة لهم. هذه الركائز الثلاث هي التي ترسم سياسة الإنفاق التي صرح بها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، في مناسبات مختلفة، حيث ستشهد المملكة قفزة في الاستثمارات، بواقع ثلاثة تريليونات ريال، يقوم بضخها صندوق الاستثمارات العامة حتى 2030، وأربعة تريليونات ريال تحت مظلة الاستراتيجية الوطنية للاستثمار، وإنفاق حكومي مقدر بعشرة تريليونات ريال خلال الأعوام العشرة المقبلة.
بهذا الأمر، فإن مسار الاقتصاد السعودي واضح المعالم، ويمكن اتخاذ قرارات تخصيص الموارد الاقتصادية للمؤسسات الاستثمارية وللأفراد بثقة أكثر. وسبق أن تحدثت عن العلاقة الجوهرية بين إدارة المخاطر وعملية تخصيص الموارد، وعموما كلما اتضحت الصورة بشأن المخاطر وقياسها كانت قرارات تخصيص الموارد ودفعها أكثر سهولة. في هذا المسار بالذات، وبحسب تصريحات رسمية، فإن الأوساط المالية تترقب خلال الربع الأول من هذا العام سندات خضراء أو صكوكا خضراء للحكومة السعودية. وتعد الصكوك الخضراء من الأدوات التمويلية الحديثة للحصول على أموال مخصصة لتمويل مشاريع متصلة بالمناخ أو البيئة، حيث يرتبط التمويل بمشروع محدد الأهداف البيئية، كمثل مشاريع الطاقة المتجددة وإدارة النفايات، وهنا يلتقي كل القضايا التي أشرت إليها، فالمشاريع العملاقة تتطلب وضوحا في الأهداف والمسار والغايات، والآليات، ما يرسم صورة واضحة عن المخاطر وإدارتها، وبالتالي يتمكن المستثمر من اتخاذ القرار بشأن المساهمة في هذه المشاريع من خلال شراء الأدوات المالية، فالمشاركة في مثل هذا التمويل تستند أساسا إلى مدى الثقة التي تتمتع بها الدول والشركات المصدرة لمثل هذه الأدوات المالية.
تجدر الإشارة إلى تزايد الطلب على الإصدارات السيادية للمملكة من قبل المستثمرين، فقد استطاعت المالية العامة السعودية إتمام إصدارها الدولي الأول 2021 للسندات بعملة الدولار بإجمالي خمسة مليارات دولار ونسبة تغطية أربعة أضعاف من إجمالي الإصدار. كما تم إكمال إصدارها الدولي الثاني للسندات بعملة اليورو بإجمالي 51 مليار يورو وبنسبة تغطية تجاوزت ثلاثة أضعاف إجمالي الإصدار، كما تم إصدارها الدولي الثالث للصكوك والسندات بإجمالي 3.25 مليار دولار وبنسبة تغطية 3.5 ضعف من إجمالي الإصدار، وهكذا فإن كل الإصدارات الدولية للمملكة حققت نجاحا وإقبالا كبيرا، ما يعكس مدى الثقة بالمالية العامة والسياسات الاقتصادية السعودية عموما.
هذه الثقة تأتي في وقت انعدام الرؤية العالمية حول انتهاء الوباء واستمرار التهديدات بشأن ظهور فيروسات جديدة أو متحورات معقدة، لذا يذهب المستثمرون نحو أساليب متقدمة لإدارة المخاطر المصاحبة لمثل هذا التهديد من خلال تطوير اختبارات تهدف إلى التعرف على مدى تحمل مصدري السندات الخسائر التي يمكن أن تحدث في المستقبل نتيجة إجراءات احتواء الجائحة وإغلاق الاقتصادات والتعرف على مشكلات السيولة أو حتى التعثر في السداد، خاصة في الأسواق الناشئة، ولقد تجلى نجاح السعودية في العبور باقتصادها من تلك المخاطر التي أفرزتها الجائحة عبر التمكن من احتوائها ومن ثم معاودة النمو التدريجي من جديد وتحقيق نسب مرتفعة عالميا في نسب التحصين لتصل الحصانة المجتمعية إلى أكثر من 70 في المائة في جميع مناطق المملكة، ما انعكس إيجابا على تقييم كل مؤسساتها.
وقد أكدت دراسة تحليلية منشورة أن أدوات الدين الدولارية للحكومة السعودية والشركات المحلية أنهت العام الماضي بمكاسب رأسمالية، دفعتها إلى التفوق على مؤشر سندات الأسواق الناشئة الخاص بالفئتين السيادية وغير السيادية، في وقت يبلغ فيه تعداد أدوات الدين في المؤشرات الدولية، المقسمة بين حكومة المملكة والشركات المحلية، 62 أداة من السندات والصكوك، وجميعها تتداول في البورصات العالمية. وحقق مؤشر "ماركيت آيبوكس للإصدارات غير السيادية الدولارية للسعودية" مكاسب 0.92 في المائة بنهاية 2021 مقارنة بخسائر 1.85 في المائة لنظيره في مؤشر السندات غير السيادية الخاص بالأسواق الناشئة. ومن المتوقع في ظل هذه البيانات، ووفقا لما تنظر إليه إدارة المخاطر أن يحافظ المستثمرون على أدوات الدين السعودية، وذلك بسبب توزيعاتها الدورية التي يصل متوسطها، وفقا لمؤشرات السندات، إلى ما بين 3.82 و3.58 في المائة.
وتؤكد دراسة نشرتها "الاقتصادية" أيضا أن القيمة السوقية الخاصة بأدوات الدين السيادية وغير السيادية المدرجة في البورصات العالمية بلغت 131.41 مليار دولار، وذلك مقارنة بقيمتها الاسمية البالغة 119.67 مليار دولار، وحقق مؤشر "آيبوكس للإصدارات السيادية الدولارية للسعودية" مكاسب 1.33 في المائة، مقابل خسائر 1.24 في المائة لمؤشر سندات الأسواق الناشئة بسبب صعود عوائد الخزانة الأمريكية، وهذا يؤكد مرة أخرى حجم الثقة التي تتمتع بها الإصدارات السعودية بكل أنواعها، ولا شك أن هذا يأتي - كما أشرت - لمناسبة السياسات الاقتصادية للتغيرات العالمية والطلب وما تقوم به وزارة المالية بالتعاون مع المركز الوطني لإدارة الدين من خطط للاقتراض معدة بشكل جيد. وفي هذا الإطار وبحسب إعلان الميزانية العامة، فمن المتوقع أن يبلغ رصيد الدين العام في 2021 نحو 938 مليار ريال، وهو ما يعادل 29.2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، كما أن من المتوقع أن يراوح حجم الدين في العام المقبل 2022 عند مستويات مقاربة لحجم 2021 نتيجة التوقعات بتحقيق فوائض في الميزانية، وذلك في مسار لخفض بنسبة الدين من الناتج المحلي الإجمالي في 2024 لتصل إلى 25.4 في المائة نتيجة لنمو الناتج المحلي الإجمالي.
نقلا عن الاقتصادية