تؤكد الأرقام والتوقعات الواردة في بيان الميزانية العامة للدولة للعام المالي 2026، الصادر عن وزارة المالية، أن الاقتصاد السعودي يواصل مسيرته التحولية بثبات وفق رؤية استراتيجية شاملة تهدف إلى بناء نموذج اقتصادي أكثر تنوعًا واستدامة. وتعكس هذه المؤشرات نجاح المملكة في تنفيذ إصلاحات واسعة خلال السنوات الماضية، وتطوير سياسات مالية ونقدية أكثر مرونة وقدرة على مواجهة التقلبات العالمية، بما يعزز مستهدفات رؤية السعودية 2030 ويضمن استمرار النمو الشامل طويل الأمد.
أداء اقتصادي قوي في 2025 يعزز الثقة
تكشف بيانات الأداء الاقتصادي لعام 2025م عن قوة الدفع التي يكتسبها الاقتصاد السعودي؛ إذ سجل الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي نموًا بنسبة 4.1 % حتى نهاية الربع الثالث، مدفوعًا بالأنشطة غير النفطية التي حققت نموًا لافتًا بلغ 4.7 %. ويعود هذا الأداء إلى تنامي الطلب المحلي، وتوسع القطاعات الواعدة، وارتفاع إسهام القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي، وتشير التقديرات الأولية للعام كاملاً إلى ارتفاع معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي إلى 4.4 %، واستمرار الأنشطة غير النفطية في قيادة النمو بنسبة 5.0 %، وهو ما يمثل دلالة واضحة على نجاح سياسات التنويع الاقتصادي وتقليص الاعتماد على النفط كمورد رئيس للإيرادات.

ماذا قال وزير المالية عن هذا التحول النوعي
ذكر أن إسهام الأنشطة غير النفطية ملفتة جدًا وتاريخية، فأن نصل إلى 55.4 % هذا نمو غير مسبوق، الإنفاق في 2025 كان إنفاقًا تحفيزيًا لتعزيز النمو على الرغم من تراجع الإيرادات البترولية بسبب انخفاض أسعار النفط، فإن الإيرادات غير النفطية سجلت أداءً أعلى من المخطط، مما يعكس فاعلية مبادرات تنويع مصادر الدخل وتحسين كفاءة التحصيل، وأن نصل قبل 5 سنوات من 2030 إلى تحقيق 93 % من مؤشرات الأداء هذا رقم مبهر. وفي المقابل، يُتوقع أن تبلغ النفقات العامة نحو 1,336 مليار ريال بزيادة 4.0 % عن المعتمد في الميزانية، وهي زيادة موجهة نحو دعم المشاريع الاستراتيجية والتنموية والقطاعات ذات الأولوية، ونتيجة لذلك، يُقدّر عجز الميزانية بنحو 245 مليار ريال 5.3 % من الناتج المحلي الإجمالي، وهو عجز تصفه الحكومة بالاستراتيجي، إذ يؤكد الوزير، أن العجز في الميزانية يختلف بحسب استخداماته، بالنسبة لنا في هذه المرحلة كان العجز إستراتيجيًا مستهدفًا، كما أشار إلى أن الحكومة مستمرة في سياسة الإنفاق التوسعي متى كان مردوده مستقبلاً أعلى من تكلفة الاقتراض، وقال أغلب النفقات التي ننفقها الآن سيأتي مردودها بعد سنوات وليس الآن، وسنستمر في الإنفاق طالما أن العائد أعلى من تكلفة الاقتراض، ويُتوقع أن يستقر معدل التضخم عند 2.3 %، وهي نسبة تعد منخفضة نسبيًا في ظل الأوضاع الاقتصادية العالمية المتقلبة، ما يعكس فعالية السياسات المالية والنقدية المتوازنة.


نمو متسارع واستدامة مالية في ميزانية 2026
تُظهر ميزانية 2026 نهجًا ماليًا مرنًا يدعم الاستدامة المالية والتحول الاقتصادي. إذ يُتوقع أن يسجل الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي نموًا يقدر بـ 4.6 %، مع استمرار الأنشطة غير النفطية بدور القاطرة الاقتصادية الرئيسة. كما يتوقع أن يتراجع التضخم إلى 2.0 %، وهو ما يعزز القوة الشرائية والاستقرار السعري، وفي جانب الإيرادات، يُقدّر ارتفاع إجمالي الإيرادات إلى 1,147 مليار ريال بزيادة 5.1 % عن عام 2025، مقابل نفقات متوقعة تبلغ 1,313 مليار ريال. وبذلك يتراجع العجز إلى 165 مليار ريال فقط (3.3 % من الناتج المحلي الإجمالي)، مما يعكس تحسن الأداء المالي والتقدم التدريجي نحو تحقيق التوازن المالي دون الإضرار بمحركات النمو.
الدين العام والاحتياطيات: إدارة كفؤة وهوامش أمان قوية
تؤكد الحكومة استمرارها في إدارة الدين العام بكفاءة عالية، إذ يتوقع أن يصل رصيده إلى 1,622 مليار ريال بنهاية عام 2026، ما يعادل 32.7 % من الناتج المحلي الإجمالي. وتعمل الدولة على تنويع أدوات الدين وتمديد آجال الاستحقاق لتقليل المخاطر وتعزيز المرونة المالية، مستفيدة من تصنيفها الائتماني الإيجابي الذي يعكس قوة الاقتصاد السعودي وثقة المؤسسات المالية العالمية، كما يتوقع أن تستقر الاحتياطيات الحكومية لدى البنك المركزي السعودي عند 390 مليار ريال في نهاية 2026، وهو ما يوفر هامش أمان مهمًا لمواجهة تقلبات الاقتصاد العالمي الذي يتوقع له نموًا محدودًا يبلغ 3.1 % فقط في 2026، ويبرز كذلك الأداء القوي لمؤشر مديري المشتريات (PMI) غير النفطي الذي سجل 60.2 نقطة في أكتوبر 2025، متفوقًا على العديد من الاقتصادات الكبرى، ما يعكس مرونة القطاع الخاص وقوة النشاط الاقتصادي المحلي.
القطاعات ذات الأولوية في السنوات القادمة
تؤكد وزارة المالية أنها ستركز على دعم القطاعات الواعدة التي تمثل مراكز قوة مستقبلية، إذ أوضح الوزير، سنتأكد من استمرار نمو جميع القطاعات، لكن بعض القطاعات سنركز عليها بشكل أكبر مثل الصناعة، والسياحة، والنقل والخدمات اللوجستية، والتقنية والذكاء الاصطناعي، وقطاع المياه، ويمثل هذا التوجه استمرارًا لسياسة الدولة في بناء اقتصاد متنوع عالي التنافسية يعتمد على المعرفة والتقنية والابتكار.
منظومة رقابية حديثة تدعم كفاءة الإنفاق
إلى جانب التحول الاقتصادي، تشهد المملكة نقلة نوعية في أنظمة الرقابة المالية مع اعتماد نظام الرقابة المالية الجديد الذي يمثل خطوة محورية في تحديث بنية العمل المالي الحكومي. فقد جاء هذا النظام، الذي حلّ محل نظام الممثلين الماليين، اتساقًا مع مستهدفات رؤية 2030 الرامية إلى تعزيز النزاهة ورفع كفاءة الإنفاق وتحسين الحوكمة المالية، ويقوم النظام الجديد على معايير واضحة وأدوات تقنية متقدمة تتابع حركة الإنفاق منذ لحظة الاعتماد وحتى الصرف، بما يحد من الهدر ويرفع جودة القرارات المالية. ومع بدء تطبيقه، بات على الجهات الحكومية تطوير إجراءاتها الداخلية وتعزيز جاهزيتها التقنية والإدارية، بما يضمن توحيد منهجية العمل الرقابي وتحسين كفاءة استخدام الموارد العامة، ويمثل هذا النظام أحد أهم الإصلاحات المؤسسية الحديثة، إذ يعزز ثقة المجتمع في سلامة إدارة المال العام، ويدعم قدرة الدولة على حماية مكتسباتها المالية ومواكبة التوسع الكبير في المشاريع الوطنية.
اقتصاد يتحرك بثقة نحو المستقبل
يمضي الاقتصاد السعودي بخطوات واثقة مدعومًا بمزيج من الإصلاحات الهيكلية، والاستثمار في القطاعات الواعدة، وتطوير المنظومة الرقابية، وإدارة مالية رصينة تستهدف الاستدامة على المدى الطويل. ومع اقتراب المملكة من تحقيق نسبة كبيرة من مستهدفات رؤية 2030 قبل موعدها، ومع انتقالها إلى مرحلة تعظيم الأثر والاستعداد لما بعد 2030، يبدو الطريق مهيئًا لمزيد من النمو والاستقرار والتقدم الاقتصادي الذي ينعكس بشكل مباشر على المواطنين والمقيمين والزائرين على حد سواء.
التنمية الاجتماعية والصحة.. قمة أولويات الإنفاق السعودي
تُعدّ الحماية الاجتماعية في المملكة إحدى الركائز الأساسية لتعزيز جودة الحياة وترسيخ الاستقرار المجتمعي. وتتجلى هذه الأهمية من خلال منظومة متكاملة لا تقتصر على تقديم المساعدات المالية فحسب، بل تشمل الضمان الاجتماعي، ورعاية الفئات الأشد احتياجًا، ودعم الأسرة والتمكين الاقتصادي والاجتماعي. في ميزانية السعودية 2026، حظي قطاعا الصحة والتنمية الاجتماعية بأعلى مخصصات للإنفاق. هذا التخصيص السخي هو تأكيد واضح على أن الإنسان هو محور التنمية وأولويتها الأولى، ويتجسد في التزام الدولة المستمر بتوفير حياة كريمة ومستقبل أفضل لجميع المواطنين والمقيمين. إن هدف المملكة ليس فقط توفير شبكة أمان، بل بناء مجتمع أكثر تماسكًا واستدامة، يكون فيه الأفراد قادرين على الإسهام بفعالية في مسيرة التنمية.

توسّع في الرؤية المستقبلية وتعزيز الجاذبية الاستثمارية
ومع استمرار السعودية في تنفيذ أجندة تحولها الاقتصادي، بات واضحًا أن توجهاتها لا تستهدف فقط تعزيز المؤشرات المالية قصيرة المدى، بل ترسم مسارًا اقتصاديًا جديدًا يتجاوز الرؤية التقليدية للنمو القائم على الموارد الطبيعية. فاليوم، يتقدم قطاع الخدمات بجميع أنواعه، إلى جانب الطاقة المتجددة والصناعة والسياحة والتقنية، لتشكيل قاعدة اقتصادية أكثر تنوعًا وصلابة. ويأتي هذا التغيير نتيجة السياسات التي وضعت المملكة في موقع أقوى للتعامل مع أي تباطؤ عالمي أو تقلبات مستقبلية، حيث أصبحت القدرة على التكيف والمرونة عنصرين أساسيين في النموذج الاقتصادي الجديد، وتتجه المملكة كذلك إلى تعزيز جاذبيتها الاستثمارية من خلال تحسين بيئة الأعمال، وتسهيل الإجراءات، وتوفير بنية تحتية رقمية ولوجستية متقدمة تجعلها مركزًا اقتصاديًا إقليميًا ودوليًا. ويستفيد الاقتصاد الوطني من سلسلة مشاريع عملاقة جاذبة للاستثمارات النوعية، إضافة إلى إنشاء مناطق اقتصادية خاصة وبيئة تشريعية داعمة. وفي ظل هذه الديناميكية، يتوقع أن تستمر تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر بالارتفاع خلال السنوات المقبلة، خصوصًا مع دخول قطاعات جديدة في دائرة الاهتمام العالمي مثل الذكاء الاصطناعي والتقنيات الخضراء، وتعكس هذه التوجهات رؤية شاملة تراهن على الإنسان السعودي بوصفه محور التنمية وهدفها النهائي. فالاستثمار في التعليم، والمهارات، وبرامج التوظيف، والقطاع الصحي، والتنمية الاجتماعية، يسير جنبًا إلى جنب مع الإنفاق على البنية التحتية والمشاريع الكبرى، ما يؤسس لنمو مستدام قادر على خلق فرص عمل وتنمية مجتمعية واسعة. وفي هذا السياق، تؤكد تصريحات وزير المالية وأرقام الميزانية أن المملكة لا تستعد فقط لعام 2026، بل لما بعد 2030 وما بعدها، عبر بناء اقتصاد حديث، منفتح، عالي التنافسية، وقادر على مواجهة التحولات الاقتصادية العالمية بثقة واقتدار.
نقلا عن الرياض


