العجز الإستراتيجي للتغلب على التحدي التاريخي للنفط

04/12/2025 1
د. محمد آل عباس

لطالما ارتبط مصير الاقتصاد السعودي ارتباطًا وثيقًا بدورة أسعار النفط العالمية. فالسعودية التي تمتلك نحو 21%  من احتياطيات النفط العالمية وتُعد أكبر مُصدِّر للخام بنحو 16% من الحصة السوقية، شهدت عقودا طويلة كانت فيها عائدات النفط هي المُحرِّك الرئيسي، حيث فاقت مساهمتها في الإيرادات الحكومية نسبة 75%. هذه الهيمنة، رغم أنها وفرت قوة مالية هائلة، إلا أنها كانت تحمل في طياتها تحديًا هيكليًا تمثل في التعرض الحاد والمباشر لتقلبات أسعار الطاقة.

كانت المشكلة الأساسية تكمن في أن أي تذبذب في أسعار النفط يظهر فورًا وبشكل قاسٍ على الإيرادات العامة للدولة، وبالتالي على حجم الإنفاق العام ومسار تمويل جميع مشاريع التنمية. لقد واجه الاقتصاد السعودي بشكل متكرر ما يُعرف بـ "الصدمات المالية، وهي موجات من الانهيار السعري التي تقود إلى تراجع الموارد الحكومية أحيانًا بنسبة تصل إلى 50%، كما حدث خلال أزمة الثمانينيات وخلال الأزمة المالية العالمية في 2008. في المقابل، كانت فترات الازدهار السعري، مثل الفترة الممتدة من 2002 إلى 2014، توفر سيولة ضخمة، حيث ارتفعت الإيرادات إلى نحو خمسة أضعاف مستواها، ما سمح بتعزيز الإنفاق وتكوين احتياطيات حكومية كبيرة.

ومع ذلك، بقيت تلك الفترة تُدار بما يشبه "اقتصاد الفرصة"؛ إذ كان الغياب النسبي للرؤية والتخطيط الإستراتيجي طويل المدى هو السمة البارزة، ما جعل الاقتصاد السعودي يدور دائمًا في حلقة مفرغة من دورات الازدهار والانكماش المرتبطة بأسواق الطاقة العالمية.

عندما أنطلقت رؤية السعودية 2030، سعت بشكل صريح لتحقيق تحول جذري يهدف إلى كسر هذا الارتباط التاريخي، وهذا ما صرح به وزير المالية السعودي في "ملتقى الميزانية 2026"، بأن التحدي الأكبر سابقًا كان يتمثل في أن "الإنفاق الذي يساير الدورة الاقتصادية" النفطية، بينما الآن، وبفضل السياسة الحكومية المُنظَّمة، فإن الإنفاق "يتزايد بطريقة مدروسة".

هذا يعني أن هناك تحولًا فعليًا في إدارة المالية العامة يهدف إلى فصل مسار الإنفاق عن التقلبات الحادة في أسعار النفط وإيراداته. هذا الفصل يضمن استمرار دفع عجلة النمو في الاقتصاد غير النفطي بشكل مستدام ومخطط له، بغض النظر عن تذبذبات السوق، لكن يبقى السؤال ما الذي اختلف فعليًا؟ فأسعار النفط كانت تتراجع قبل الرؤية وكان هناك عجز في الميزانية، واليوم بعد الرؤية أيضًا لدينا عجز.

الفرق الجوهري، كما يقدمه الوزير، لا يكمن في وجود العجز بحد ذاته، بل في هدف العجز ووظيفته فسابقا كان العجز اضطراريا (ردة الفعل) يحدث نتيجة نقص مفاجئ في إيرادات النفط (صدمة سلبية)، ما يجبر الحكومة على الاقتراض أو استخدام الاحتياطيات لتغطية نفقاتها التشغيلية والالتزامات القائمة، وكانت الحكومة تتجنب الدين ما أمكنها لأن الهدف هو سد الفجوة الاضطرارية، والدين قد أوجد مشكلة مستدامة إذا لم يكن مستهدفا لإحداث تغيير هيكلي.

في المقابل فإن العجز اليوم كما وصفه وزير المالية بالعجز الإستراتيجي (الفعل المُخطط له) لأنه يحدث نتيجة زيادة مُتعمَّدة في الإنفاق الاستثماري والرأسمالي على مشاريع إستراتيجية ضخمة تهدف إلى تحقيق نمو مستقبلي وعوائد طويلة الأجل من خلال إحداث تغيير عميق في هيكل الاقتصاد وتنوعه.

فالحكومة تختار اليوم أن يكون هناك عجز وتُحدد قيمته؛ فالغرض ليس سد فجوة للحفاظ على التوازن، بل تمويل التحول الهيكلي وخلق قطاعات اقتصادية جديدة لزيادة الإيرادات غير النفطية المستقبلية.

على هذا الأساس، فإن الميزانية السعودية أصبح لها دور وظيفي أبعد من مجرد تمويل الإنفاق العام ومراقبته، بل هي أداة لمعالجة التحدي التاريخي للتعرض لصدمات النفط ضمن إطار رؤية 2030 لتنفيذ 3 إستراتيجيات محورية أولها أن يصبح النمو في الإيرادات غير النفطية مستدامًا، ويسهم بقوة في تمويل الميزانية.

هذا يتضمن تطوير قطاعات جديدة وزيادة فاعلية الضرائب والرسوم غير المباشرة. ثانيا، النمو الاقتصادي النابع من الداخل من خلال التحول من اقتصاد يعتمد على العائدات النفطية الخارجية إلى اقتصاد تُطلق فيه القوة الإنتاجية المحلية. يتم ذلك من خلال تفعيل دور صندوق الاستثمارات العامة لتمويل مشاريع استثمارية هائلة في قطاعات جديدة (كالسياحة، والصناعة، والتعدين، والتقنية) لا تعتمد في نموها على النفط، ثالثا، بناء مركز مالي قوي، لا يقتصر على الاحتياطيات الإستراتيجية لدى البنك المركزي، بل يشمل بناء سوق متطورة لأدوات الدين.

هذا يسمح للحكومة بفصل الإنفاق الحكومي عن تقلبات النفط، وضمان استمرار دفع المشاريع التنموية حتى في فترات انخفاض الأسعار، ما يمنع تكرار سيناريوهات الماضي.

تؤكد الدراسات، مثل تلك التي أجراها مركز الملك عبدالله للدراسات والبحوث البترولية  (KAPSARC)، أن هذا النهج سيجعل الناتج المحلي الإجمالي في السعودية أكثر متانة لمواجهة صدمات أسعار النفط، مؤكدة على أن تنفيذ سياسة التنويع الاقتصادي هو المسار الوحيد لتحقيق الاستقرار الاقتصادي المنشود.

فالسعودية لم تعد تتعامل مع النفط كأمر واقع لا يمكن تغييره، بل كنقطة انطلاق لتمويل تحول أكبر، ولهذا أكد وزير المالية في تصريحاته على أهمية دور النفط، لكن الفارق الحقيقي بين الأمس واليوم لا يكمن في وجود العجز، بل في أيديولوجية إدارة العجز. بالأمس، كان العجز سيفاً مسلطاً يهدد استقرار الإنفاق.

اليوم، أصبح العجز أداة استثمارية مُتعمَّدة تخدم خطة إستراتيجية للفصل التام بين مسار الإنفاق التنموي ومسار التقلبات النفطية. هذا التحول يعني الانتقال من كون الاقتصاد السعودي تابعاً لتقلبات سوق الطاقة، إلى كونه صانعاً ومُحفزاً لنموه الذاتي المستدام والقائم على تنويع المصادر وتوطين القيمة المضافة.

 

نقلا عن الاقتصادية