استشراف مستقبل الإعلام الرقمي

04/11/2021 1
د. عبدالعزيز بن محمد العواد

للإعلام دوراً محورياً في عملية التثقيف ومتابعة الواقع والتفاعل معه، بل إن المشروعات التنموية الكبرى  التي تنشدها الدول لا يمكن أن تنجح إلا بمشاركة الشعوب وهو أمر لا يتحقق إلا بمساعدة الإعلام فيما يعرف بالتعبئة، من خلال شرح القضايا وطرحها على الرأي العام وتوصيل الرسائل المختلفة، فالإعلام يتمحور حول نقل المعارف والمعلومات والثقافات بطريقة محددة من خلال أدوات ووسائل الإعلام والنشر، وقد ظل الإعلام التقليدي لفترات طويلة يعتمد على أسلوب الاتجاه الواحد، فيصدر من خلال الوسائل الإعلامية التقليدية كالصحف والمجلات والتلفاز والراديو إلى  المتلقي. ثم جاء القرن الحادي والعشرين، وحمل معه ثورة هائلة في تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، ووصلت خدمات الشبكة العنكبويتة إلى معظم سكان العالم؛ فأصبح العالم قرية كونية صغيرة مع انتشار هائل لوسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية التي تخطى بعضها حاجز 2.8 مليار مستخدم.   

وقد أدى ذلك إلى تحول جذري في نهج الإعلام، وباتت عملية إنتاج واستهلاك الأخبار في يد الأفراد مستغلين الفرص التي توفرت لهم مع التطور المستمر في العالم الإفتراضي والتحول الرقمي. وهذه الظاهرة بالطبع لم يغفلها الأكاديميون، وتم تناولها بالبحث والدراسة؛ فظهرت بعض المصلحات الجديدة لوصف الظاهرة على سبيل المثال الإعلام الجديد أو الإعلام التفاعلي أو إعلام الوسائط المتعددة أو الإعلام الشبكي الحي على خطوط الاتصال، أو الإعلام السيبراني، أو الإعلام الشعبي، أو الإعلام الرقمي وهو المصطلح الأكثر انتشاراً بين الأكاديميين، وفى هذا المقال نلقي الضوء على مصطلح الإعلام الرقمي وأدواته ومستقبله في ظل استمرار عمليات التطوير والابتكار في مجال الاتصالات وعلاقته بالأمن الفكري والسيبرانى. 

 الإعلام الرقمي مصطلح ممتد للغاية، وهناك اختلاف كبير بين الأكاديميين للوصول إلى تعريف محدد له، لكن يمكننا القول بأن الإعلام الرقمي هو أي شيء نصل إليه من خلال الأجهزة الرقمية، فهو مجموعة تكنولوجيات الاتصال الرقمي التي تولدت من الاندماج بين تقنيات الحاسب والأجهزة الذكية والوسائل التقنية للإعلام مثل الطباعة والتصوير والصوت والصورة والفيديو. وللإعلام الرقمي أشكال عدة فيشمل المواقع الإلكترونية، ووسائل التواصل الاجتماعي، والمقالات والمدونات، والإعلانات المدفوعة، وألعاب الفيديو، والواقع الافتراضي، والإذاعة والتلفزيون الإلكتروني وغيرها من الوسائل. 

وقد فرض الإعلام  الرقمي نفسه بقوة ولم يعد ترفاً أو بديلاً بل أصبح له السلطة والكلمة العليا في الإعلام، نتيجة تزايد عدد جمهور ومستخدمي منصات التواصل الاجتماعي بشكل يومي مع توفيرها خدمات لا حصر لها تسهل التواصل الاجتماعي والعمل والإعلان والتسويق والإعلام، كذلك تزايد أعداد مستخدمي الهواتف الذكية من جهة وأعداد المنصات والتطبيقات الاجتماعية من جهة أخرى، وسهولة الوصول إلى  الخبر والمعلومة وقت حدوثها، مما أدى إلى  فقدان ملايين الصحفيين لوظائفهم خلال العقد الأخير وتحولت المؤسسات الإعلامية الكبرى من النسخ الورقية إلى  نسخ رقمية لتفادى الخسائر ومواكبة الواقع الجديد، والجدير بالذكر أن تلك المؤسسات حققت نتائج مبهرة خلا ل عام 2020م وكسبت ملايين المشتركين على منصاتها كالواشنطن بوست والجارديان ونيويورك تايمز ولوموند، خاصة مع ظروف جائحة كوفيد-19 والإغلاقات، وتشير دراسة استقصائية عام 2021م أجراها معهد رويترز في جامعة أكسفورد إلى  أن 76% من مدراء وسائل الإعلام   قد سرّعوا خططهم للتحوّل الرقمي للتكيّف مع تداعيات كوفيد-19 والتخفيف من حدتها ضمن المجالات الضرورية للتطوير، وقد أشار أكثر من 230 من المحررين والمدراء التنفيذيين وكبار الشخصيات في غرف الأخبار إلى تغييرات في ممارسات العمل، والمنصات الصحفية، ونماذج الأعمال، والطريقة التي تفكر بها شركات الإعلام في الابتكار وإنتاج الأخبار. 

وهنا لا يمكن أن نغفل هجرة الإعلانات التجارية من وسائل التقليدية إلى  المنصات الرقمية وما يعرف بالمؤثرين، فحجم سوق المعلنين ضخم للغاية وبيئة خصبة لترويج الأنشطة التجارية، فشركة فيسبوك على سبيل المثال حققت إيرادات  فقط في الربع الثالث من العام الحالي 2021م قدرت ب 29 مليار دولار، وبصافي أرباح قدرت ب 9.2 مليار دولار في نفس الربع، وتكشف أرقام عالمية حديثة صادرة عن مؤسسة (Hootsuite ) عن حالة الشبكة العنكبوتية حول العالم  أن عدد مستخدمي مختلف منصات التواصل الاجتماعي حول العالم توسع العام الحالي ليضم قرابة 4.5 مليار مستخدم نشط وذلك مع نهاية شهر يوليو 2021م ، وبحسب التقرير فقد وصل  عدد مستخدمي منصات التواصل نسبة تصل إلى  حوالي 57 % من إجمالي عدد سكان العالم. ومن جهة أخرى بات يشكل نسبة تصل إلى 93 % قياسا بعدد مستخدمي الشبكة العنكبوتية حول العالم، والذي بلغ خلال شهر يوليو الماضي قرابة 4.8 مليار مستخدم نشط. كما تؤكد الأرقام الواردة في التقرير العالمي أن قاعدة منصات التواصل الاجتماعي قد شهدت زيادة خلال فترة عام مضى وخصوصا مع استمرار الجائحة، ووفقاً لأرقام التقرير فقد زاد عدد مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي حول العالم بمقدار 520 مليون مستخدم نشط، وبنسبة تجاوزت الـ 13 %، وذلك لدى المقارنة في نفس الفترة من العام 2020 عندما بلغ قرابة 3.96مليار مستخدم نشط. 

وكان الأثر الهام للإعلام الرقمي في الحياة الأكاديمية هو اتجاه الجامعات إلى إنشاء أقسام للإعلام الرقمي وتطبيقاته مثل الاتصال البصري والتصميم والرسوم المتحركة والتسويق الرقمي وصناعة الأفلام، واعتماد الجامعات على طرق التدريس الجديدة التي تعتمد على التقنية والمنصات الرقمية والتدريب عن بعد، وظهرت الرسائل العلمية التي تناقش ابعاد الظاهرة أثرها على المجتمعات.  

ومما سبق يمكن أن نستشرف مستقبل الإعلام الرقمي وكيف أننا لم نصل إلى نهاية المطاف في هذا الشأن، فسهولة الوصول إلى الشبكة العنكبوتية الآن أفضل من أي وقت مضى، وسيسهل الأمر أكثر وأكثر من خلال المشاريع الطموحة التي تتيح الاتصال الفضائي بالشبكة العنكبوتية إلى كل بقعة من بقاع الأرض مثل مشروع (Starlink)، الذي تم أطلاقه في عام 2019م. بالإضافة إلى المنافسة بين الشركات والتي تبذل جهداً لتبدع من أجل جذب الناس لمنصاتها، والتطور الكبير في صناعة المحتوى بين المؤثرين، والتقنيات الجديدة كتقنية الواقع المعزز.  كذلك الأرباح التي تحققها شركات الاتصالات تكون دافع لضخ مزيد من الاستثمارات، فشركات الاتصالات المدرجة في سوق الأسهم السعودية على سبيل المثال قد حققت خلال عام 2020 صافي أرباح بنحو 12.2 مليار ريال، مقابل نحو 11.2 مليار ريال للعام الذي سبقه 2019، بنمو 8.9 في المائة. كذلك الاستثمارات الحكومية الضخمة على البنية المعلوماتية والتقنية، كل تلك المعطيات تؤشر إلى مستقبل كبير للإعلام الرقمي في مقابل انحسار لوسائل الإعلام التقليدية. 

هنا نصل لنقطتين في غاية الأهمية، الأمن السيبرانى وعلاقته بالإعلام الرقمي وأثر هذا التوغل من الإعلام الرقمي على الأمن الفكري في السعودية، فبالنسبة للأمن السيبرانى فيشير الى جميع التقنيات والعمليات والممارسات المصممة لحماية الأنظمة الحاسوبية والشبكات والبرامج والبيانات الرقمية من الهجمات الإلكترونية. إذ تهدف تلك الهجمات عادةً إلى سرقة أو تغيير أو تخريب المعلومات الحساسة، أو ابتزاز المستخدمين للحصول على الأموال أو إيقاف الخدمات. ومع التسارع الكبير في عمليات التحول الرقمي ارتفعت معدلات الهجمات الإلكترونية ومخاطر اختراق البيانات مما جعل السعودية أكثر حرصًا في توفير بيئة أمنة للبيانات والعمليات الرقمية من خلال نظام أمني متين. وهنا يأتي دور الهيئة الوطنية للأمن السيبراني في وضع استراتيجيات لحماية البيانات والخصوصية وتنفيذها. بالإضافة الى إطلاق عدد من المبادرات والبرامج الوطنية كالمركز الوطني الإرشادي للأمن السيبراني ليعمل على إصدار التنبيهات بآخر وأخطر الثغرات، والاكاديمية الوطنية للأمن السيبرانى والاتحاد السعودي للأمن السيبرانى والبرمجة والدرونز. 

أما الأمن الفكري، فهو مصطلح حديث ويعني تحقيق الطمأنينة على سلامة الفكر والاعتقاد، والتفاعل الرشيد مع الثقافات الأخرى، ومعالجة مظاهر الانحراف الفكري في النفس والمجتمع. والشباب هم المستخدم والمستهدف الأول للمنصات الرقمية وخاصة وسائل التواصل الاجتماعي، وبالتالي نحن لا نعلم ما يبث في تلك المنصات لشبابنا وما يصل إليهم من رسائل فكرية قد تكون متطرفة أو إباحية أو ابتزاز أو غيرها من الأمور، خاصة مع تعدد تلك الرسائل بحيث يصعب حصرها وصعوبة مراقبتها فمعرفة ما يجرى بها أمر غاية الصعوبة، مع الدراسات النفسية الحديثة التي لا تحبذ المراقبة الكاملة للأبناء، فنحن بحاجة إلى زيادة الوعي بأهمية وخطورة وسائل الإعلام الرقمي في حال تم إساءة استخدامها. ومن الممكن أن تتم التوعية من خلال إضافة بعض المقررات الدراسة للطلاب في مراحل مبكرة لبناء الوعي الفكري، كذلك إنماء روح الرقابة الذاتية ومخافة الله في السر والعلن، كذلك تنظيم الندوات العلمية والثقافية بصفة دورية في جميع مناطق السعودية لزيادة الوعي حول الأمن الفكري لشبابنا وبناتنا. وتمويل الدراسات التي تدرس التأثيرات النفسية والاجتماعية لتطبيقات وأدوات عصرنا الرقمي. 

 

خاص_الفابيتا