الدولار والريال ... ما بين الربط والتعويم

26/08/2021 6
د. عبدالعزيز بن محمد العواد

مع كل أزمة جديدة تضرب الاقتصاد العالمي يتذبذب معها الدولار الأمريكي وأسعار النفط، يشتد الجدل بين الاقتصاديين والمجتمع الأكاديمي خصوصاً حول جدوى سياسة ربط الريال السعودي بالدولار الأمريكي وإمكانية فك الارتباط بين العملتين أو السماح بهامش من المرونة، فالقرارات المتعلقة بالسياسة النقدية من أصعب الأمور وأدقها لأنها هي السبيل الهام الذي من خلاله يمكن التعامل مع المتغيرات التي تطرأ على الاقتصاد وكذلك السيطرة على مستويات التضخم العالية والسيولة.

أما عن قرار ربط الريال السعودي بالدولار الأمريكي، فهناك محطات تاريخية حدثت في القرن الماضي يمكن أن تسهم في فهم قرار الربط، ففي عام 1944 وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية اجتمع ممثلي 44 دولة في مؤتمر "بريتون وودز" في الولايات المتحدة الأمريكية من أجل التأسيس لنظام نقدي عالمي، جديد أسس ما عرف وقتها ب "معيار الذهب"؛ حيث تم تحديد الدولار بسعر 35 دولاراً مقابل كل أونصة من الذهب. وكان الهدف حينها من إقرار نسبة التغطية من الذهب هو منع الولايات المتحدة الامريكية من طباعة وضخ النقود بشكل غير محسوب مما قد يؤدي إلى تخفيض قيمته مقابل العملات الأخرى ودعم صادراتها، إضافة إلى اعطاء نوعاً من الأمان للدول الأخرى أنه وحتى في حال عجزت الولايات المتحدة الامريكية عن الوفاء بالتزاماتها فإنه يمكنهم استرداد ما يقابلها من الذهب، فكان أعضاء المؤتمر يأملون أن هذا النظام الجديد من شأنه ضمان استقرار سعر صرف العملات حول العالم، ومنع التخفيضات التنافسية، وتعزيز النمو الاقتصادي.

عمل "معيار الذهب" في الخمسينات والستينيات من القرن الماضي، ولكن سرعان ما بدأت نهايته مع تسارع نمو الاقتصاديين الألماني والياباني، وتأثر الميزانية الفيدرالية الأمريكية بالمتطلبات المالية الباهظة للحرب في فيتنام، كما أغرقت الدولارات الأمريكية الأسواق العالمية، وبدأت دول كثيرة تطالب بالذهب مقابل حيازتها من الدولار الأمريكي، الأمر الذي كان من الممكن أن يؤدى الى إعلان الفيدرالي الأمريكي إفلاسه خاصة مع المطالبات المتتالية للدول بالحصول على الذهب في مقابل الدولارات الأمريكية التي تمتلكها. وعلى أثر ذلك حدثت " صدمة نيكسون" التي غيرت شكل النظام النقدي العالمي حتى يومنا هذا. فهي إشارة الى الإجراءات التي قام بها رئيس الولايات المتحدة الامريكية ريتشارد نيكسون عام 1971، وأهمها كان إلغاء التحويل الدولي المباشر من الدولار الأمريكي إلى الذهب. وبحلول عام 1973، استبدل نظام "بريتون وودز " بحكم الأمر الواقع إلى نظام تعويم العملات الورقية الذي لا يزال العمل به قائماً حتى الآن.

ومنذ ذلك الحين أصبح الدولار هو العملة الأقوى في العالم، والعملة الأولى في عملية التبادل التجاري بين الدول، بل ويشكل النسبة الأكبر من الاحتياطيات في البنوك المركزية لمعظم دول العالم.

هنا لجأت العديد من الدول الى ربط عملاتها بالدولار الأمريكي، فالبنك المركزي يتحكم في سعر العملة عن طريق الربط بالدولار الأمريكي؛ فكلما ارتفع الدولار ترتفع عملتها، وتنخفض عند انخفاض سعر الدولار الأمريكي، كما لجأت بعض الدول الأخرى الى ربط عملاتها بسلة من العملات الرئيسية كالين الياباني واليورو والجنية الإسترليني.

أما عن السعودية فبعد صدمة نيكسون ونتيجة لعدم استقرار سعر الدولار وتذبذبه اختارت ربط الريال السعودي عام 1975 بسلة من العملات وهي حقوق السحب الخاصة، واستمر هذا الوضع 11 عاماً، ثم عاودت ربط الريال السعودي بالدولار بالأمريكي عام 1986 عند 3.75 ريال لكل دولار أمريكي وهو الوضع الذي ما زال قائماً حتى الآن.

وكان لربط الريال السعودي بالدولار الأمريكي واستمراره على مدار الثلاث عقود ونصف الماضية عدة أسباب، أهمها أن الدولار عالمياً يعتبر المكون الرئيسي للسيولة العالمية والعملة الأساسية في تمويل التجارة الدولية والاستيراد والتصدير وعملة الاحتياط الرئيسية في معظم البنوك المركزية، ولو أضفنا الى ذلك قوة الاقتصاد الأمريكي والقوة التي أكتسبها الدولار نتيجة للتحسن الملحوظ في سعره في مقابل سلة العملات الأخرى، بالإضافة لدور النفط الهام في عملية ربط الريال السعودي بالدولار الأمريكي، فالسعودية من أكبر منتجي ومصدري النفط في العالم ويشكل النفط المصدر الأول للإيرادات في ميزانيتها، والنفط يتم تسعيره وبيعه بالدولار الأمريكي كما أن الاستثمارات النفطية يتم تسعيرها بالدولار الأمريكي.

إن لاستمرار ربط الريال السعودي بالدولار الأمريكي منافع عدة فعلى سبيل المثال، على مدار العقود الماضية نجح الريال السعودي أن يكون صلباً وقوياً غير متأثر بالتقلبات التي حدثت في بنية الاقتصاد العالمي كما أن الاقتصاد الأمريكي رغم التقلبات الأخيرة بسبب تداعيات جائحة كوفيد -19 مازال الاقتصاد الأكبر والاقوى في العالم.

وهنا يشير بعض المحللين الاقتصاديين أن الريال السعودي مقوم بأقل من قيمته وأنه في حالة تعويمه وفك الارتباط بالدولار سيتراوح سعر الريال ما بين 2.5 الى 3 ريال لكل دولار أمريكي، وبالرغم من النتائج الإيجابية لهذا القرار كتخفيف الضغط عن البنك المركزي السعودي، فالمحافظة على سعر صرف الريال تتطلب معه شراء الدولارات وطبع المزيد من الريالات، وهو أمر يسهم بدوره في رفع معدلات التضخم، يعني رفع الريال يلغي هذا الجزء من التضخم، وسيخفض رفع سعر الريال من حجم الديون الحكومية الخارجية، وزيادة الاستثمارات السعودية في الخارج، لأن تكاليف هذه الاستثمارات أرخص من قبل.

لكن هذا القرار سيكون له أثار كبيرة على الاقتصاد أهمها خفض الإيرادات النفطية التي تأتى الى السعودية فإذا كان سعر برميل النفط 100 دولاراً، وسعر صرف الريال 3.75 ريال لكل دولار، فإن سعر هذا البرميل 375 ريال، بينما إذا تم رفع سعر صرف الريال أمام الدولار (ليكون 3.5 ريال لكل دولار بدلا من 3.75 ريال لكل دولار)، فالإيرادات البترولية ستنخفض بعد تحويلها إلى الريال، والصادرات من المصانع السعودية سترتفع كلفتها وتقل منافستها، وكذلك الأصول والاستثمارات الأجنبية ستنخفض كذلك ارتفاع سعر الريال مقابل العملات في الدول الراغب مواطنيها في الحج والعمرة والزيارة والتي من الممكن أن يؤدى الى ارتفاع تكاليف الحج والعمرة والزيارة وتكاليف الإقامة في السعودية أثناء فترة الحج والعمرة والزيارة مما قد يمنع البعض عن القدوم وبالتالي انخفاض مداخيل الحج والعمرة والزيارة وبنفس المنطق سيشجع ارتفاع سعر الريال المواطن السعودي الى تفضيل السياحة الخارجية على السياحة الداخلية. وأيضا سيحدث انخفاض نسبي في الاستثمارات الأجنبية المباشرة، حيث إن رفع سعر صرف الريال سيرفع مباشرة تكاليف الاستثمار في المملكة خاصة الاستثمارات القادمة لأول مرة الى المملكة.

أما عن مساوئ ربط الريال السعودي بالدولار الأمريكي يمكن حصرها في عدد من النقاط، أولها انخفاض هامش الحركة والحرية لدى البنك المركزي السعودي ولا يسمح له بتنفيذ سياسة نقدية مستقلة، فأسعار الفائدة في السعودية تكون مرتبطة بنظيرتها في الولايات المتحدة الأمريكية، مما يجعل يد البنك المركزي السعودي مقيدة نسبياً فيما يتعلق بالسيولة والتضخم والنشاط الاقتصادي. وثانيها ربط الريال بالدولار يفرض على البنك المركزي السعودي الاحتفاظ بكميات كبيرة من العملات الأجنبية لمواجهة أي عملية شراء أو بيع قد تحدث للدولار، فللمحافظة على ربط أسعار صرف عملة معينة، تقوم الحكومة ببيع وشراء العملة المحلية باستمرار من خلال احتياطيات العملات الأجنبية. وثالثها غياب عملية التسعير المرن للريال السعودي والتي تعمل كمنطقة عازلة لامتصاص الصدمات الخارجية في الاقتصاد، مما يجعل أي تغير في سعر الدولار عالمياً يولد ضغوط تضخمية على الاقتصاد السعودي. هنا نستطيع أن نفهم أن ربط السعودية لأسعار صرف عملتها الوطنية بالدولار الأمريكي يجعل الاقتصاد السعودي يخسر حريته في تطبيق سياسات نقدية تحفز اقتصاده على النمو.

إن قرار ربط الريال السعودي بالدولار الأمريكي أو التعويم ليس بالقرار السهل كما يتصور البعض، لذا يجب دراسته دراسة متأنية وعميقة من جميع النواحي، لتحقيق أقصى استفادة للاقتصاد السعودي وحتى لا تظهر أي آثار سلبية مستقبلاً.

 

خاص_الفابيتا