تم بإيجاز شديد الحديث في الجزأين الأولين عن تراجع معدل البطالة إلى 12.6 في المائة بنهاية 2020، واستقرار إجمالي العمالة السعودية بنهاية العام عند 3.3 مليون عامل، توزعوا على القطاع الحكومي بأكثر من 1.5 مليون عامل، وفي القطاع الخاص بأكثر من 1.7 مليون عامل. كما أظهرت نتائج تطورات سوق العمل للفترة 2016 ـ 2020 بلوغ متوسط النمو السنوي للعمالة السعودية نحو 0.9 في المائة، مقابل انخفاضه خلال الفترة نفسها للعمالة الوافدة بمتوسط سنوي 6.4 في المائة. ولأهمية الفترة 2021 ـ 2025 التي يتوقع أن يتجاوز خلالها أعداد مخرجات قطاع التعليم العالي والتقني والمهني دون التعليم العام سقف 1.9 مليون خريج، وتجاوزهم سقف 4.0 ملايين خريج خلال العقد المقبل كاملا، ما يؤكد أهمية قيام وزارة الموارد البشرية بتأسيس والعمل بالمشاركة مع القطاع الخاص على برامج توطين أكثر تطورا وكفاءة، لاستيعاب تلك الأعداد الكبيرة من طالبي العمل من الموارد البشرية الوطنية.
وتقتضي جهود إضفاء الكفاءة على برامج التوطين خلال الفترة المقبلة أن يتم تحديد أهم وأبرز المعالم الرئيسة التي تقف عليها سوق العمل المحلية خلال الفترة الراهنة، ومن ثم وضع البرامج والسياسات اللازمة لتحقيق أعلى معدل ممكن للتوطين في القطاعين الحكومي والخاص، ولخفض معدل البطالة إلى أدنى مستوى ممكن. تم تحديد ثلاثة معالم منها، (1) فيما يتعلق بالمتعطلين، الذين بلغت نسبة حملة الشهادة الجامعية فأعلى منهم نحو 54.5 في المائة من الإجمالي، وزادت النسبة لحملة الشهادة الثانوية فأعلى إلى 90.3 في المائة من الإجمالي، ما يؤكد هنا أهمية إدخال نوعية الوظائف حسب التأهيل العلمي في صميم برامج التوطين. (2) نظرا لعدم كفاية النمو المتوقع للقطاع الخاص "4.6 في المائة خلال الفترة 2021 ـ 2025" لامتصاص تلك الأعداد الكبيرة من طالبي العمل بتوفير وظائف جديدة لهم، وأنه لا بد من الاعتماد بدرجة أسرع وأكبر على إحلال الوظائف، لتحقق زيادة كافية في التوظيف، والتركيز على نوع الوظائف لا الكم، والأخذ في الحسبان أن يتم البدء بالمنشآت العملاقة والكبيرة قبل غيرها من المنشآت المتوسطة والأصغر حجما. (3) يقتضي تحقيق أفضل نتائج لجميع ما تقدم ذكره أن يتم إقرار برنامج خاص لتوطين الوظائف القيادية والتنفيذية "متخذ القرار" في منشآت القطاع الخاص وفق خطة زمنية متدرجة لا تتجاوز خمسة أعوام، تبدأ بإلزام المنشآت العملاقة والكبيرة، ثم يشمل في أعوام تالية المنشآت المتوسطة والصغيرة حتى نهاية الفترة إذا اقتضت الحاجة.
(4) يجب أن تقوم وزارة الموارد البشرية بتوسيع آلية التوطين، والعمل على تفويضها مهام ومسؤوليات التوطين لمصلحة مختلف الأجهزة الحكومية حسبما تتولاه تلك الأجهزة من إشراف ورقابة على مختلف القطاعات الاقتصادية، ويصبح بذلك كل جهاز حكومي مسؤولا عن كل مهام ومسؤوليات التوطين ورفع معدلاته في منشآت القطاع الخاص الخاضعة لإشرافه ورقابته، حسب القطاعات الاقتصادية المرتبطة بها، وأن تأتي تلك الآلية من العمل تحت مظلة منظومة متكاملة للتنفيذ، بين وزارة الموارد البشرية من جهة، ومن جهة أخرى الأجهزة الحكومية حسب القطاعات الاقتصادية التي تتولى الإشراف عليها، كالقطاع الصحي المرتبط بوزارة الصحة، والقطاع التجاري بكل ما يتضمنه من تفاصيل المرتبط بوزارة التجارة والاستثمار، والقطاع السياحي المرتبط بوزارة السياحة، والقطاع المالي والتأمين المرتبط بالبنك المركزي السعودي، وهو النموذج الناجح القائم الآن على أرض الواقع، والقطاع الاستثماري المرتبط بهيئة السوق المالية، وهكذا على بقية الأجهزة والقطاعات التي تشرف عليها تلك الأجهزة الحكومية.
تستند الأهمية القصوى لتبني هذا النموذج الفاعل للتوطين حسب الأجهزة الحكومية والقطاعات الاقتصادية الخاضعة لإشرافها ورقابتها، أؤكد أنها تستند إلى حيثيات وأسس عديدة جوهرية، لعل من أهمها وأعلاها أولوية المتمثل في توزيع معالجة واحد من أكبر التحديات التنموية "التوطين" على الأجهزة الحكومية الأكثر قربا من القطاعات الاقتصادية المسؤولة عنها، عوضا عن الوضع الراهن الذي استغرق العمل به عقودا طويلة من الزمن، ولم تأت نتائجه على أرض الواقع، كما تم استهدافه طوال تلك الفترة الطويلة جدا. ولا يعني هذا النموذج المقترح هنا انسحاب وزارة الموارد البشرية من دورها الرئيس، بقدر ما أنه بمعنى أكثر وضوحا، يتمثل في إضافة مزيد من القوة والسيطرة والتحكم إلى جهودها المعنية بالتوطين وزيادته فترة بعد فترة، والسير بجهود التوطين وفق صيغة تكاملية من العمل المشترك، والأخذ في الحسبان الاختلافات الهيكلية بين القطاعات الاقتصادية المختلفة من جانب، ومن جانب آخر زيادة الفعالية والكفاءة اللازمة لأجل التقدم بخطى أسرع على طريق رفع معدلات التوطين، والتحسين الأفضل لمبادرات وجهود اقتناص الموارد البشرية الوطنية لفرص العمل الجيدة في قطاعات الاقتصاد، والخروج من دائرة النتائج المحدودة جدا لبرامج التوطين الراهنة، التي عانت وما زالت تعاني إلى حد بعيد رؤيتها ذات العين الواحدة للقطاعات المختلفة للاقتصاد، دون الأخذ في الحسبان الحجم الكبير لكثير من الاختلافات على مستوى طبيعة ونوعية تلك القطاعات الاقتصادية، التي تتجاوز كثيرا مجرد نقطة اختلاف معدلات التوطين المقررة حسب كل قطاع، حيث لا يعني إقرار نسبة توطين معينة على قطاع بعينه، وإقرار نسبة توطين أعلى أو أقل على قطاع آخر، أنه تم الأخذ في الحسبان الاختلافات الكبيرة جدا بين قطاعات الاقتصاد الوطني.
خير شاهد على فعالية هذه الآلية، ما تبينه قصة التوطين الناجح في قطاع التأمين الذي يشرف عليه البنك المركزي السعودي، الذي ضم ملف التوطين في القطاع إلى بقية جهود ومسؤوليات الإشراف والرقابة الموكلة إليه، بل تجاوز كل ذلك إلى الإشراف والرقابة حتى على معدلات التوطين في المناصب الإدارية العليا لدى الشركات العاملة في القطاع، وجاءت النتائج مبهرة إلى حد كبير جدا، حيث ارتفع معدل التوطين في قطاع التأمين خلال الفترة 2016 ـ 2019 من 54.8 في المائة إلى 74.3 في المائة، وارتفع أيضا خلال الفترة نفسها معدل توطين المناصب الإدارية في القطاع من 27.1 في المائة إلى 59.8 في المائة، ولا ينسى في هذا الشأن المهم الإشارة إلى نجاح البنك المركزي السعودي أيضا على مستوى القطاع المصرفي، الذي سجل بدوره ارتفاعا في معدل التوطين خلال الفترة نفسها من معدل 90.9 في المائة في نهاية 2016 إلى 94.3 في المائة في نهاية 2019. وللحديث بقية بمشيئة الله.
نقلا عن الاقتصادية