لا بد قبل الخوض فيما يجب القيام به على مستوى برامج التوطين خلال الأعوام الخمسة المقبلة، وقد يمتد إلى العقد الزمني المقبل حتى نهاية 2030، أن يتم تحديد أهم وأبرز المعالم الرئيسة التي تقف عليها سوق العمل المحلية خلال الفترة الراهنة، والبدء من ثم بناء على تلك المعالم والمحددات الرئيسة بوضع البرامج والسياسات اللازمة لتحقيق أعلى معدل ممكن للتوطين في كل من وظائف القطاعين الحكومي والخاص، ولخفض معدل البطالة إلى أدنى مستوى ممكن، والأخذ في الحسبان المحافظة على النمو الاقتصادي عموما، والقطاع الخاص خصوصا، واقتران كل ذلك بالتحسن المستمر في مستويات الأجور بالنسبة للأفراد العاملين، وضمان الاستقرار المعيشي وجودة الحياة بالنسبة لهم وأسرهم.
يمكن تحديد أبرز معالم الواقع الراهن لسوق العمل المحلية فيما يلي: (1) بالنسبة للمتعطلين، تظهر الإحصاءات الأخيرة من حيث المستويات التعليمية، أن نسبة حملة الشهادة الجامعية فأعلى من الإجمالي بلغت نحو 54.5 في المائة، وأن معدل البطالة لهذه الشريحة بلغ 16.1 في المائة، وتزداد النسبة لحملة الشهادة الثانوية فأعلى إلى 90.3 في المائة من إجمالي المتعطلين، فيما يبلغ معدل البطالة لهذه الشريحة 13.2 في المائة. يفيد الاعتماد على هذه البيانات في التعرف بصورة أكثر دقة على نوعية الوظائف التي يجب استهدافها بالتوطين، والخروج ببرامج تقوم على المواءمة بين مؤهلات طالبي العمل من جانب، والفرص الوظيفية المتوافرة في السوق، سواء الشاغر منها أو المشغولة بعمالة وافدة، وتجاوز الفجوة الراهنة الناتجة عن زيادة عرض وظائف متدنية من حيث المؤهلات والأجور اللازمة من جانب، مقابل عدم إقبال أغلب المتعطلين والباحثين عن فرص عمل على تلك الوظائف من جانب آخر، ولعل من أكثر النتائج العكسية لهذه الفجوة، أنها ضاعفت من الضغوط على كثير من المنشآت المتوسطة والصغيرة، كونها المستودع الأكبر لتلك الوظائف الأدنى من حيث المؤهلات والأجور، في الوقت ذاته الذي نأت مئات الآلاف من الفرص الملائمة للمتعطلين في المنشآت الكبيرة والعملاقة، ونتيجة لهذه الفجوة فقد استمر ارتفاع معدل البطالة لدى تلك الشرائح من المتعطلين.
وبمقارنة أعداد العمالة الوافدة من حملة الشهادة الجامعية فأعلى، حسب آخر إحصاءات، فإنهم يشكلون أكثر من 3.2 أضعاف أعداد العاطلين من حملة الشهادة الجامعية، ويزداد إلى أكثر من 5.1 أضعاف أعدادهم إذا تمت مقارنة العمالة الوافدة بأعداد المتعطلين لشريحة حملة الشهادة الثانوية والدبلوم، وتبين تلك المقارنات بمضاعفاتها العالية توافر كثير من المرونة لسياسات الإحلال عند الأخذ في الحسبان جوانب التخصصات العلمية والمهنية اللازمة لإحلال تلك الوظائف، وتحقيق كثير من التقدم على طريق كل من زيادة التوطين وخفض معدل البطالة خلال أقل من عامين على أبعد تقدير، وأهمية التركيز على تطوير برامج التوطين لتأخذ هذا المحور في الحسبان من جانب، ومن جانب آخر تركيز أعباء تنفيذه على المنشآت العملاقة والكبيرة بالدرجة الأولى، مقابل أعباء أقل للمنشآت المتوسطة والصغيرة.
(2) حسبما يوضح النمو السنوي لمخرجات التعليم العالي والتعليم التقني والتدريب المهني، إضافة إلى جزء من مخرجات التعليم العام، الذي يتجاوز الإجمالي السنوي له سقف 300 ألف طالب عمل جديد، ويتوقع - وفقا لوتيرة نموه الراهنة - أن يستمر في النمو عاما بعد عام حتى نهاية 2025 ليصل إلى أعلى من 435 ألف طالب عمل جديد، ما يعني بدوره أن أعداد طالبي العمل من مخرجات التعليم ستتجاوز 1.9 مليون خريج وخريجة خلال الأعوام الخمسة المقبلة، وهذا عدد يتجاوز حجم العمالة السعودية في القطاع الخاص الآن "1.75 مليون عامل بنهاية 2020"، وحيث يعد القطاع الخاص هو القطاع الأكثر اعتمادا عليه في توفير فرص العمل اللازمة، فإن تحقيق هذا المستهدف، إضافة إلى توظيف الرصيد الراهن من المتعطلين، الذين تبلغ نسبة الراغبين منهم في العمل في القطاع الخاص إلى 93.2 في المائة، وفق إحصاءات سوق العمل الأخيرة (جدول 14-1)، وقياسا على المعدلات الراهنة للنمو الحقيقي للقطاع الخاص "بلغ متوسط النمو السنوي للقطاع 0.8 في المائة خلال 2016 - 2020"، وما يواجهه من تداعيات تفشي كوفيد - 19 ما زال يكابدها، ويؤمل استعادته للتعافي سريعا والوصول إلى متوسط نمو سنوي خلال 2021 - 2025 لا يقل عن 4.6 في المائة، وفقا للتوقعات الأخيرة لصندوق النقد الدولي، وهو النمو الذي لن يكون كافيا لامتصاص تلك الأعداد الكبيرة من طالبي العمل بتوفير وظائف جديدة لهم، ما يشير إلى أهمية التقدم بخطى أسرع وأكبر على طريق إحلال الوظائف، وهو الأمر الأكثر ضمانا للتحقق على أرض الواقع، بشرط زيادة فعالية وكفاءة برامج التوطين، وتطويرها بالصورة التي تأخذ في حسبانها نوعية الوظائف أكثر من كميتها، والتركيز بدرجة أكبر على المنشآت العملاقة والكبيرة قبل غيرها من المنشآت الأصغر حجما، وهو ما يقع عبئه على كاهل وزارة الموارد البشرية في إطار إشرافها ومسؤوليتها على تصميم برامج التوطين اللازمة خلال الفترة المقبلة.
(3) يقتضي اكتمال النجاح المأمول للأخذ بما ورد أعلاه في الفقرتين السابقتين، وبحال تم العمل على تنفيذه وتحويله إلى مشاريع منفذة على أرض الواقع أن يتم إقرار برنامج خاص لتوطين الوظائف القيادية والتنفيذية في منشآت القطاع الخاص، وأن يبدأ إلزام منشآت القطاع الخاص به وفق خطة زمنية متدرجة لا تتجاوز خمسة أعوام، تبدأ بإلزام المنشآت الأكبر حجما "العملاقة، والكبيرة"، ثم يتدرج تنفيذ البرامج في أعوام تالية ليشمل المنشآت المتوسطة، وأخيرا المنشآت الصغيرة إذا تطلبت الحاجة إلى ذلك في نهاية الفترة. تأتي الأهمية القصوى لتبني هذا البرنامج، لما تمثله هذه المستويات الإدارية في منشآت القطاع الخاص من كونها متخذ القرار الأول فيها، وهو ما يفسر الجزء الأكبر من تأخر نجاح أغلب برامج التوطين طوال العقد الماضي، لما تتمتع به هذه المستويات الإدارية العليا من صلاحيات كافية، وقدرتها العالية على الاستجابة من عدمها لمتطلبات برامج التوطين، وتوجيهها في الاتجاه الذي يخدم مصالحها بالدرجة الأولى، ودون الوقوع في أي مخالفات ملموسة لتلك البرامج، ويكفي الإشارة هنا إلى أن انخفاض العمالة الوافدة خلال 2016 - 2020 بنسبة 26.1 في المائة "أكثر من 2.2 مليون عامل"، تركز بأعلى من 97.2 في المائة على العمالة الأدنى أجورا ومهارات بنسبة انخفاض فاقت 28.7 في المائة، بينما لم تتجاوز نسبة انخفاض ذوي المستويات الأعلى نسبة 5.1 في المائة خلال الفترة نفسها، وللحديث بقية لا تقل أهميته عما تقدم.
نقلا عن الاقتصادية