أعادت جائحة كورونا تشكيل خارطة مقرات العمل في القرن الحادي والعشرين، مما عجل من وتيرة الانتقال إلى نموذج هجين يمزج بين تقنية العمل عن بُعد، والعمل من المكاتب التي تمثل أهمية قصوى للتعلم والصحة العقلية والتعاون والتدريب المباشر ونقل الخبرات، وإذا كان العمل عن بُعد أمر شائع منذ سنوات في بعض القطاعات الحيوية مثل تكنولوجيا المعلومات، لأنه يوفِّر الحرية والمرونة المطلوبة، ويسمح بتوظيف أفضل المواهب، إلا أن هذا الأمر يبدو في حكم المستحيل بالنسبة لبعض الصناعات الأخرى، بالرغم من أن عام 2020 فرض قواعد استثنائية غير مسبوقة.
يجب التسليم بأن العمل عن بُعد أضحى الوضع الطبيعي في زمن الجائحة، فهو الوسيلة الوحيدة غالبًا لاستمرار الأعمال التجارية، وسواء أكان هذا التحول قسريًّا أم لا، فقد أجبر التباعد الاجتماعي الشركات على إعادة التفكير بشأن آليات العمل وهيكلتها، إذ لم يكن أمام رجال الأعمال سوى خيارين لا ثالث لهما، إما التأقلم مع الوضع الراهن، أو التوقف عن العمل، وهذا الأمر يطرح سؤالاً عريضاً حول طبيعة الشركات التي يمكن أن تنفذ بسلاسة تقنية العمل عن بُعد؟، ومهارات الكوادر المهنية القادرة على ملء هذا الفراغ؟، وبالرغم من أن قطاع التكنولوجيا يعد الأكثر قابلية للتكيُّف مع الأزمة، إلا أن عمالقة السيليكون فالي، اضطروا إلى تقليص 40 ألف وظيفة بحلول منتصف 2020.
أُجبرت فترة عقم الأنشطة بعض الشركات الناشئة على الفرار من مواقعها، فباعت مساحات العمل المشتركة وبعض الأصول والمنازل والسيارات؛ للتهرب من تكاليف الصيانة باهظة الثمن، بعدما أصبحت المرافق والسيارات نادرة الاستخدام، وانتقل العمال الأمريكيون، على سبيل المثال، من منطقة باي إريا بولاية كاليفورنيا غالية الثمن إلى أماكن أخرى أقل تكلفة، حيث يمكن للشركات استئجار أو شراء منازل بها مساحة أكبر لاستيعاب تقنيات العمل عن بُعد.
مع ذلك، تظل توقعات العودة للمكاتب غير مؤكدة، حيث ترجئ الشركات مواعيد استئناف أعمالها من المكاتب، وعلى سبيل المثال، قدَّرت شركة «جوجل» في يوليو 2020 أنها ستستأنف العمل من مكاتبها بحلول صيف 2021، إلا أنها في ديسمبر، أرجأت الموعد إلى سبتمبر القادم، فيما ترى بعض الشركات أن العمل من مكاتب نائية ستصبح اتجاهاً مستمراً في الاقتصاد العالمي لحين إشعار آخر، ومن هذا المنطلق، منح «فيسبوك» موظفيه مكافأة تُقدَّر بألفي دولار من أجل إنشاء مكاتب في منازلهم.
اللافت في الأمر، هو نمو الطلب على خدمات الشركات التي تراعي قواعد التباعد الاجتماعي، إذ تعمل مؤسسة «كورسيرا»، عملاق تكنولوجيا التعليم، على توسيع نطاق تعاونها مع الجامعات، بينما زاد انتشار تطبيق «زووم» حتى ظهرت تطبيقات تعاون جديدة أو تحسَّنت تطبيقات حالية، مثل تطبيق «مايكروسوفت تيمز»، كما تشهد تطبيقات توصيل البقالة ارتفاعًا؛ وعلى سبيل المثال، يستفيد تطبيق "إنستاكارت" الأمريكي من زيادة الطلب على خدماته المتعلقة بطلبيات البقالة بنسبة 150%.
في المقابل، يجب الاعتراف بأن طبيعة بعض المِهن تَحُوُل دون ممارسة أعمالها بالكامل عبر الإنترنت، مثل مقدمي الرعاية الصحية، والتوصيل والمواصلات، وأعمال البناء، والتصنيع، والتركيب والصيانة والإصلاحات، وإعداد الطعام وخدماته، والخدمات الوقائية، بينما تملك مهن أخرى فرصة أفضل في ممارسة العمل من المنزل مثل موظفي الكمبيوتر، والتعليم، والقطاعات المالية، والقانونية، والإدارية، والفنية، وهذا يعني اللجوء إلى النموذج الهجين في ممارسة الأعمال.
توفر فرص العمل عن بُعد استمرارية الخطط التشغيلية، وتستجيب لدواعي إدارة المخاطر والطوارئ، حيث تستطيع الشركات الاستمرار في تأمين الوظائف، ومع ذلك، تشير بعض استطلاعات الرأي إلى أن بعض الموظفين لا يرغب في مواصلة العمل من المنزل عقب انتهاء الجائحة، ولهذا، فليس من المرجح أن تعود الأعمال إلى وضعها الطبيعي بشكل فوري بمجرد إعلان منظمة الصحة العالمية عن موت كورونا، ولا شك أن هذا الأمر سيتَسبَّب في إعادة تشكيل عادات العمل المتعارف عليها.
تتمثَّل أكبر فوائد الشركات من شيوع تقنية العمل عن بعد، في خفض تكاليف العقارات، والتوقف عن شراء المساحات المكتبية، والاستفادة من تأجير مكاتب ومساكن الموظفين، وتقليص تجديدات البنية التحتية والميزانيات، إذ يمكن للشركات أن تحتفظ بمكتب في موقع منخفض التكلفة، فضلًا عن توظيف عاملين من مناطق تبدو فيها تكلفة المعيشة والرواتب أكثر ملاءمة لميزانية الشركات، ولهذا، يتعين على الشركات الراغبة في البقاء على قيد الحياة الاستفادة من التطور التكنولوجي، واستحداث برنامج لإدارة المخاطر، مع ضرورة أن تتكيف بيئة العمل مع الأزمات.
خاص_الفابيتا