حين غادر ماريو دراجي البنك المركزي الأوروبي بعد ثماني سنوات من توليه المنصب، سُئل عن خطواته القادمة، فأجاب: "عليك أن تسأل زوجتي"، غير أن زوجته سيرينا لم تكن لتتوقع الأزمة التي أطاحت بجوزيبي كونتي من رئاسة الوزراء الشهر الماضي، وأن الاختيار سيقع على زوجها ليقود الحكومة الإيطالية السابعة والستين منذ الحرب العالمية الثانية، وسط تهاوي الناتج المحلي بنسبة 8.9% في عام 2020، وانقسام سياسي حاد، حتى أصبح الرجل بمثابة الخيار النووي، أي أنه الخيار الأخير بعد فشل الأحزاب السياسية في تحقيق الأغلبية.
مميزات دراجي التي خبرناها عندما تولى رئاسة البنك المركزي الأوروبي قبل سنوات، أنه بلغة الرياضيين، كريماً ومتعاوناً، فغالباً ما يمرر الكرة لزملاؤه داخل الملعب، مستشعراً روح الفريق، ولا شك أن التعاون والشعور بالمسؤولية صفتان مهمتان في الخبير الاقتصادي المخضرم الذي يتعين عليه أن يكافح من أجل انتشال اقتصاد بلاده من أعمق أزمة اقتصادية منذ اندلاع الحرب العالمية الثانية أربعينيات القرن الماضي، وهو تحد هائل يتزامن مع استمرار كارثة وبائية أودت بحياة 90 ألف إيطالي.
دراجي، المعروف بتأييده القوي للمشروع الأوروبي، حصل على شهادة في الاقتصاد من جامعة لاسبييزنا في روما، ودرجة الدكتوراه من معهد ماساشوستس للتكنولوجيا، الجامعة الأمريكية المرموقة، ودرس في الجامعات الإيطالية قبل تعيينه عام 1991 مديراً عاماً للخزانة الإيطالية، وهناك أظهر دراجي خبرة فنية وموهبة فطرية، وكفاءة في التفاوض بشأن تبني إيطاليا للعملة الأوروبية الموحدة، وبعد فترة من توليه منصب نائب رئيس بنك جولدمان ساكس، عُين دراجي محافظاً لبنك إيطاليا عام 2006، وخلال الأعوام من 2011 -2019، تولى رئاسة البنك المركزي الأوروبي، خلفا للفرنسي جان كلود تريشه، حيث اشتهر دراجي بقراراته المتعلقة بشراء سندات دول منطقة اليورو التي تعاني من الأزمة المالية بكميات غير محدودة، واستطاع بكفاءة إدارة أسوأ أزمة اقتصادية مرت بها اليونان التي كانت على شفا التخلف عن سداد ديونها الضخمة، وربما مغادرة منطقة اليورو.
تصريحات دراجي خلال أزمة اليونان، تثبت أنه لم يكن مؤيداً للإجراءات التقشفية القاسية، إذ كان يركز على الإصلاحات الهيكلية، وفي عام 2012، ألقى دراجي كلمة غيرت مسار الأزمة، إذ تعهد بأن يفعل البنك المركزي الأوروبي كل ما يلزم للحفاظ على اليورو، وغالبًا ما يقع على كاهل البنوك المركزية العالمية المهام الأكثر حساسية خلال الأزمات المالية، ويعد دراجي من أشد المدافعين عن خفض الفائدة لدعم النمو، وقد تزامنت ولايته مع أزمات كبرى تفجرت في منطقة اليورو يعود جزء منها إلى سنوات ما قبل توليه المنصب، خاصة مع ارتفاع نسب التضخم والبطالة والديون المتراكمة وتهاوي أسواق السندات، غير أنه تمكن من التعامل معها باقتدار وكفاءة، ووصف خلالها بـ"منقذ اليورو".
من حسن حظ دراجي أن بإمكانه تحصيل أكثر من 200 مليار يورو من أموال صندوق الإنعاش الأوروبي، وهذه أكبر فرصة مواتية لإحداث طفرة اقتصادية في إيطاليا منذ خطة مارشال في خمسينيات القرن الماضي، في المقابل، يتعين على دراجي رأب صدع الانقسامات السياسية العميقة في بلاده، وتجييش الأحزاب من أجل إنقاذ الاقتصاد الإيطالي، والحدّ من أزمة جائحة كورونا، ولا شك أن تمتعه بعلاقات ممتازة مع كافة دوائر صنع القرار الأوروبية سيسهل إنجاز مهمته الصعبة.
خاص_الفابيتا