عمالقة التكنولوجيا.. وكابوس المواجهات العصيبة

17/01/2021 0
د. خالد رمضان عبد اللطيف

توشك العلاقة الكلاسيكية المريحة بين الحزب الديمقراطي الأمريكي، وشركات التكنولوجيا الكبرى على دخول مرحلة بالغة التعقيد، بعدما سلطت أعمال الشغب التي جرت في مبنى الكونجرس الأضواء بشدة على حجم القوة الهائلة التي تتمتع بها هذه الشركات بصفتها "حارساً أميناً" على المجتمع، فحظرت حسابات رئيس الدولة من على منصاتها المختلفة في سابقة فريدة، ولهذا، فإن كبح جماح هذه الشركات التي بلغت شأواً عظيماً سيكون على رأس أولويات الإدارة الجديدة التي أظهرت لها مسبقاً العين الحمراء، ويبدو أن شركتي "جوجل" و"فيسبوك" سيكونان في مقدمة موكب الضحايا، وبطبيعة الحال، فإن الهدف المعلن للحكومة الفيدرالية في هذه الحرب التي لا هوادة فيها، هو إنقاذ المنافسة العادلة، وحث المستثمرين على تقديم خدمات رقمية بأسعار مناسبة.

منتصف شهر نوفمبر الماضي، اتهمت وزارة العدل الأمريكية شركة جوجل بالاحتكار، وانضم للدعوى نحو 40 ولاية فيدرالية، بينها ولاية كاليفورنيا التي تحتضن المقر الرئيسي للشركة، وتشكل هذه الدعوى مع نظيرتها المرفوعة ضد "فيسبوك" في العاشر من ديسمبر الماضي منطلقاً جديداً لحملة واسعة النطاق ضد عمالقة وادي السيليكون، ولهذا، فإنه من المرجح الآن أن يواجه حيتان التكنولوجيا من القطاع الخاص أوقاتاً عصيبة خلال السنوات القادمة، خاصة في ظل حالة الاستياء العالمي من إقدامها على غزو الخصوصية، والتهرب الضريبي التي اعتادت ممارسته في بعض الدول تحت مبررات مختلفة.

تاريخياً، فإن التصدي للشركات الاحتكارية ليس أمراً جديداً في الولايات المتحدة؛ ففي شهر مايو عام 1911 أصدرت المحكمة العليا قراراً بتفكيك شركة "روكفلر" النفطية الشهيرة التي تأسست نهاية القرن الثامن عشر، واستحوذت لاحقاً على 90% من الشركات المحلية المنتجة للبترول؛ ولكن بعد حملة إعلامية شرسة ضدها، قرر الرئيس الأمريكي تيدي روزفلت إجراء تحقيق انتهى إلى اتهام الشركة بالاحتكار، وبعد معركة قضائية استمرت خمس سنوات صدر الحكم بتفكيك "روكفلر" إلى أكثر من 70 شركة صغيرة.

أما شركة مايكروسوفت التي احتلت عرش التكنولوجيا منذ ثمانينات القرن الماضي؛ فقد اتهمت بممارسة الاحتكار عام 1990، من خلال عدم مشاركة منتجاتها مع الشركات الأخرى؛ فضلًا عن تهيئة نظام التشغيل لعرقلة البرامج الأخرى المشابهة لبرامجها، وبعد تحقيق استمر ثماني سنوات، أصدرت محكمة فيدرالية حكماً بصحة اتهام الشركة بممارسة الاحتكار، وطالبتها بتقسيم الشركة إلى شركتين؛ الأولى تتعامل مع المنتجات الصلبة مثل أجهزة الحاسوب وملحقاتها، والشركة الثانية تدير منتجات أنظمة التشغيل؛ على أن تدار كل شركة منهما بشكل منفصل، إلا أن "مايكروسوفت" استأنفت على الحكم، وبعد مفاوضات شاقة مع وزارة العدل، تم التوصل إلى تسوية تقضي بمشاركة الشركة منتجاتها مع مقدمي الخدمات المشابه من المنافسين الآخرين.

مع تفاقم سطوة الابتكارات التكنولوجية خلال السنوات الماضية، أجبر المستهلكون على تحمل الخطاب المتعجرف للشركات القاطنة في وادي السيليكون، والتي أفلتت من الوقوع تحت طائلة قانون الاحتكار، فحققت أرباحاً فلكية، وربما كان هذا الأمر سيستمر لمدة أطول، إلا أن فشل المنصات الرقمية في إيقاف انتهاك الخصوصية، أظهر حجم الضرر البالغ الذي تسببه هذه الشركات المهتمة فقط بتحقيق أطماعها المادية، ففقدت مصداقيتها مع تغير مزاج المستهلكين وتنبههم لخطورة ممارستها الفجة، وعلى سبيل المثال، يمكننا أن نتذكر السؤال المطروح بشدة قبيل الانتخابات الأمريكية عام 2016، وهو: "هل سيترشح مارك زوكربيرج مؤسس فيسبوك للرئاسة"، لكن السؤال تغير بشكل دراماتيكي في 2020 ليصبح: "كيف استطاع مارك الاحتفاظ بمنصبه كرئيس تنفيذي للشركة طوال السنوات الماضية".

يقيناً، فإن الخطاب الرومانسي الذي روجته فيسبوك طوال عقد كامل عن عالم منفتح ومتصل أصبح بلا قيمة، فقد أصبح ملايين المستخدمين يعتبرونها مجرد شركة متعطشة لجمع البيانات، وضمان إدمان الزبائن على منتجاتها، والتهرب من المساءلة، ولعل من بين الأمور القليلة التي يتفق عليها الديمقراطيون والجمهوريون، أن صناعة التكنولوجيا أصبحت أقوى من اللازم، في الوقت الذي يرى فيه غالبية الأمريكيون، رغم إيمانهم المطلق بالحياة الرقمية، أن شركات البيع عبر الإنترنت مثل "أمازون" قضت بشكل ممنهج على التجارة التقليدية مما أدى إلى فقدان آلاف الوظائف، وأن "إنستجرام" تستحوذ أكثر من اللازم على اهتمام الشباب، وسط مناخ عام تتصاعد فيه المخاوف من نفوذمليارديرات وادي السيليكون، وتأثيرهم الطاغي على صناع القرار.

لكن، خريطة التفاعلات السياسية تظهر اعتناق نسبة كبيرة من القيادات التنفيذية بوادي السيليكون للأفكار اليسارية، وهذا الأمر سيكون له تأثير قوي على تبنى قضايا حقوق العمال، وتفاوت الثروة، وقد لا يتسامح هذا الجناح اليساري المتشكل مع سياسة التساهل الحكومي تجاه الشركات العملاقة التي لا تتخذ مواقف تقدمية إزاء القوى العاملة، وقد أدى تصاعد التوتر خلال حقبة ترامب إلى مغادرة شخصيات بارزة، مثل المستثمر بيتر ثيل الذي صرح بأن أجواء وادي السيليكون لم تعد ملائمة أيديولوجياً للبقاء.

الآن، وبعد عقد كامل من الالتصاق بالأجهزة والشاشات، يبدو أن الجمهور المنبهر بنمط الحياة الرقمية بدأ في التراجع خطوة للوراء، والتفكر جلياً في مخاطر فقدان الخصوصية وتعرية البيانات، ولهذا، فإنه من المرجح أن يعرقل النواب الجدد القادمون إلى الكونجرس زحف شركات التكنولوجيا نحو تحقيق المزيد من الأرباح المليارية على حساب المستخدمين، عبر إصدار تشريعات جديدة، وعليها من الآن فصاعداً، أن تتوقع المزيد من الدعاوى القضائية التي ستكبدها ربما تعويضات قياسية، وسط سيل من الاستجوابات الناقدة في الكونجرس. 

 

خاص_الفابيتا