قبل عقدين من الزمان تجمّع نحو 50 ألف متظاهر في مدينة سياتل الأمريكية، للتعبير عن غضبهم إزاء السياسات الاقتصادية والبيئية لمنظمة التجارة العالمية، والتي كانت تعقد في ذلك الوقت اجتماعًا مهماً يناقش زيادة الهيمنة على اقتصاد العالم المتدفق، وقد أسهمت احتجاجات "معركة سياتل"، التي بدأت سلمية، وتحولت خلال خمسة أيام إلى مواجهات عنيفة، في تعزيز مفاوضي البلدان النامية، الذين خرجوا تدريجياً عن مسار خطط المنظمة للتوسع والهيمنة.
بمرور الزمن، أدى تمسك المنظمة بنموذج العولمة المفرطة، إلى ردة فعل عنيفة، فباتت قاب قوسين أو أدنى من انهيار دراماتيكي وشيك، خاصة بعدما قررت الولايات المتحدة استهداف هيئة تسوية المنازعات عبر عرقلة تعيين قضاه جدد، وفي ظل تململ بعض الدول من فرض قواعد تعتقد المنظمة أنها تناسب الجميع، وتفضلها الأسواق العالمية، بينما يرى منتقديها أنها قواعد خطيرة تكبل بعض الحكومات إزاء تلبية احتياجات مجتمعاتها.
يقيناً، فإن تفجر جائحة كورونا التي أدت إلى اضطراب غير مسبوق في سلاسل الإمدادات وحركة التجارة العالمية تجعل من مهمة إصلاح المنظمة "حامي حمى" النظام التجاري متعدد الأطراف، أكثر إلحاحًا الآن للحفاظ على تدفق حركة البضائع والسلع، ومع ذلك فإن تمرير تلك الإصلاحات التي باتت مطلباً يحظى بإجماع دولي نادر من المرجح ألا تتم قبل انعقاد المؤتمر المقبل للمنظمة، والمتوقع عقده في يونيو 2021، وهكذا فإن تحقيق الاصلاحات بات أمراً ضروريا، خاصة وأن المدير العام السابق روبرتو أزيفيدو، غادر مبكراً تاركاً وراءه فوضى، إذ لم تتمكن الأطراف المعنية في منظمة التجارة، أي اقتصادات العالم، من الاتفاق على أي شيء، بما في ذلك اختيار نائب من نوابه الأربعة ليكون المدير العام الانتقالي، ولذا، يتشارك النواب الأربعة تلك المهمة.
المعضلة الكبرى، أن المنظمة التي تأسست قبل ربع قرن ولدت قبل عصر الإنترنت، ولهذا لم تأخذ في الحسبان المنتجات الرقمية، إذ يتم توصيف التجارة في أدبيات المنظمة بعنصرين هما الخدمات والبضائع، وبعدهما حركة رؤوس الأموال، ولا تشمل التجارة الرقمية، وبالتالي يتعين أن تضم المنظمة منتجا جديدا وهو منتج "المعرفة"، بعدما باتت الملكية الفكرية في الوقت الراهن من أهم منتجات العالم المعاصر، وهكذا فإن فكرة إصلاح المنظمة، لابد أن تجرى بتوافق جماعي، باعتبارها مسؤولية العالم ككل، وليس دولة واحدة.
المفارقة الغريبة، أنه بالرغم من الدور الأمريكي البارز في منظمة التجارة، إلا أن ثلث طعون المنظمة استهدفت السياسات الأمريكية التي ثبت أنها تنتهك قوانين التجارة العالمية، لكن هذا لا يعني أن أمريكا لم تحقق انتصارات على منافسيها التجاريين، فقد حصلت على أحكام ضد السياسات الهندية التي تشجع حصول المزارعين الفقراء على البذور، والقيود الأوروبية على الأغذية المعدلة وراثيًّا، وحظر هرمونات النمو الصناعية في اللحوم، كما مارست الولايات المتحدة ضغوطاً هائلة على تايلاند، والبرازيل، وجنوب أفريقيا لتغيير سياساتها المتعلقة بالحصول على أدوية مرضى الإيدز، وغيرها من الأدوية المنقذة لأرواح البشر.
اللافت، أنه منذ تأسيس منظمة التجارة في عام 1995، بالغ مؤيدوها بوعود المكاسب الاقتصادية المذهلة؛ لدرجة أن الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون أكد بأن المنظمة ستقدم للأسرة الأمريكية الواحدة دخلًا إضافيًا بنحو 1700 دولار سنويًا، وستسهل دخول بلاده للسوق المفتوحة، وستخفض العجز التجاري للأمريكيين، وستوفر فرص عمل جديدة برواتب مجزية، وستجلب المزيد من الثروات، لكن الحقيقة المجردة هي أن قواعد المنظمة لم تكن مصممة أبدًا لإنجاز هذه الوعود التي لم تتحقق.
شكلت هيمنة مصالح الشركات على المفاوضات التجارية، واستبعاد العمال والمستهلكون، وتراجع قضايا البيئة خطأً فادحاً في عمل المنظمة، إذ لم تكن لديها أجندة تحمل أية متطلبات عمالية أو بيئية لرفع الرواتب أو الحد من التلوث، أو أنها لا تضع حدًّا أدنى لمعايير سلامة المستهلك، وفشلت في إنجاز قواعد تضبط عمل الشركات الاحتكارية الكبيرة، التي تشوه الأسواق العالمية، وفرطت مراراً في مكافحة التلاعب بالعملة الذي جلب مزايا تجارية غير عادلة لبعض الدول.
خلال حِقبة المنظمة الممتدة طوال ربع قرن، فقدت الدول المتقدمة ملايين الوظائف الصناعية، التي يتقاضى أصحابها رواتب عالية، لاسيما عقب انضمام الصين رسمياً للمنظمة في عام 2001، مما زاد بشكل كبير من عدم المساواة في الدخل بين الدول الغنية والفقيرة، وبالرغم من إدراك كافة الدول لحجم التحديات الملقاة على عاتق المنظمة، يبقى السؤال الذي يتردد صداه بين كافة الاقتصاديين والمراقبين: هل ستتخذ المنظمة حقاً إصلاحات ضرورية لإنقاذ نفسها من الانهيار؟، ولهذا فإن المهمة الأساسية للمدير العام المقبل للمنظمة تتمثل في إعادة بناء الثقة بين كافة أطراف التجارة، وسيتوجب عليه التأكيد على أن المنظمة تؤدي عملاً مفيداً للبشرية، وأنها غير منحازة لأى دولة.
خاص_الفابيتا