منذ بداية حملته الانتخابية اطلق الرئيس ترمب وعودا وتهديدات تشير إلى أن مرحلته ستكون مليئة بالمواجهات مع الحلفاء التقليديين والمنافسين على حد سواء بدون أية تفرقة. وبعد أن فاز بالانتخابات وبدأت ولايته أصدر أوامر تنفيذية عديدة تؤكد ما هدد ووعد بتطبيقه من فرض رسوم على الصين وكندا والمكسيك، واحتمال أن يطبق مثلها على أهم شريك وحليف تاريخي، وهي دول الاتحاد الأوروبي، وحتى لو كانت بعض الأسباب مختلفة من دولة لأخرى، لكن هناك جانبا واحدا يجتمعون فيه وهو أنهم أكبر المصدرين لأميركا التي تعاني من عجز تجاري ضخم معهم، ويرغب ترمب من بين أهم أهداف تطبيق الرسوم لتقليصه بنسبة كبيرة حتى يصل لمرحلة الفائض مع بعضهم.
لكن: هل ورقة الرسوم ترجح فيها كفة الإيجابيات على السلبيات لصالح أميركا فقد ثبت من خلال تجارب سابقة لدول عديدة قامت بالحمائية أنها لم تحقق لها أهدافا ذات قيمة كبيرة بعيدة المدى بل إن صراع الكبار بفرض الرسوم يطلق حرب تجارية تؤثر سلباً على نمو الاقتصاد العالمي وتفقد الثقة بين تلك الاطراف المتصارعة على قيادة التجارة الدولية والمراكز الأولى في حجم الناتج الاجمالي عالمياً، ورغم أن ما ظهر من خلال فرض الرسوم على كندا والمكسيك الذي تم إيقاف تطبيقه لمدة شهر بعد أن حقق أحد أهم الاهداف المعلنة بموافقة الدولتين على نشر عدد كبير من جيشهما على الحدود لمحاربة الهجرة غير الشرعية لاميركا، إضافة إلى مكافحة تصدير المخدرات لها وذات الأمر مع كولومبيا لكن ايضا الرئيس ترمب يذكر دائماً أن تلك الدول مستفيدة من اميركا التي تعاني عجزا تجاريا معها وأنه يجب معالجة هذا الخلل، فهل فرض الرسوم يحقق هذه الغاية من خلال زيادة الواردات من اميركا والتي قد لا تحتاجها اسواق تلك الدول إما لوجود بديل لديها او لارتفاع تكلفتها والعامل الاخر الذي يسعى له ان تقوم شركات تلك الدول بنقل بعض خطوط إنتاجها لداخل أميركا.
أما الصين فهي منافس رئيسي تخشى أميركا ان تزيحها من قيادة الاقتصاد العالمي خلال عقدين قادمين، ولذلك فإن الرسوم التي فرضت عليها هدفها أبعد مما طبق على كندا والمكسيك فحجم العجز التجاري ضخم، السلع التي تصدر لاميركا متنوعة وسوقهم أدمن عليها لانخفاض تكلفتها، بل كثير من تلك المنتجات هي لشركات أمريكية اقامت مصانعها بالصين بل إن المواجهة مع الصين تأخذ منحى مختلفا تماماً؛ فالمطالبة بضم قناة بنما لاميركا هدفها وضع عراقيل أمام التجارة الصينية مع القارة الأمريكية، وقد رضخت بنما لتهديد أميركا وقامت بالانسحاب من مبادرة الحزام والطريق، كما طالب بشراء جزيرة غرينلاند نظراً لموقعها المهم الذي يخدم التجارة الدولية، ولكن عرضه المفاجئ بطلب ضم دولة كندا لتكون الولاية 51 في الاتحاد الامريكي فإن له أبعادا كبيرة جداً في مواجهة الصين، وحتى دول الاتحاد الاوروبي حيث اذا تحقق لأميركا هذا الحلم بعيد المنال، فإن موازين القوة ستتغير للابد في العالم، فستكون مساحة اميركا حوالي 19 مليون كم مربع وبذلك تصبح اكبر دولة بالعالم، وتزيح روسيا من هذا المركز، كما ستهيمن على اكبر احتياطي من الموارد الطبيعية، وخصوصاً النفط والمعادن، والأخيرة هي الاهم؛ أن ميدان التنافس العالمي في الصناعات الحديثة بالطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية والتقنيات الخادمة للذكاء الاصطناعي سيكون للمعادن الدور الأهم فيها، ولذلك من سيمتلك السيطرة على أكبر احتياطيات المعادن سيكون له الكلمة الأقوى في سلاسل الامداد العالمية، بل إن ترمب قال لزيلنسكي إن عليه تقديم المعادن الثمينة التي تملك أوكرانيا كميات كبيرة منها مقابل المساعدات التي يتم تقديمها لهم بحربهم مع روسيا وهي اشارة واضحة لاهمية المعادن بالمرحلة القادمة عالمياً.
اللعب على المكشوف بين الكبار أصبح واضحاً، والأهداف الحقيقية من كل تلك التحركات يعلن عنها صراحةً والمواجهات ستزداد بينهم فالحرب التجارية بدأت، والصين ردت بفرض رسوم على واردات اميريكية، وأوروبا تعهدت برد على أي رسوم يفرضها ترمب على صادراتهم للسوق الأمريكي و الرسوم التي هي ورقة تفاوضية رئيسية لترمب ليس بالضرورة أن تكون منافعها القصيرة الامد مفيدة مستقبلاً فإن عامل الثقة اهتز بالعلاقات التجارية بين كل تلك الدول وواشنطن، إضافة إلى أن منظمة التجارة العالمية اصبحت في مأزق وجودي فعلياً؛ حيث اصبح دورها على المحك في تنظيم علاقات الدول التجارية واحترام الاتفاقيات بينها، اضافة الى ان الدول التي يفرض عليها رسوم ستضع خططا تقلل فيها من التصدير لاميركا، بل وحتى حجم التجارة معها وبالنهاية سيؤدي ذلك لو تحقق لتراجع كبير في مكانة الاقتصاد الامريكي، وكذلك دور الدولار بالتجارة العالمية فهل اضعفت اميركا نفسها من حيث اعتقدت أن ما تقوم به هو ما يضمن لها التفوق عالمياً اما الجواب على هذا السؤال فسيظهر في السنوات العشرة القادمة؟
نقلا عن الجزيرة