أشير إلى مقالنا الذي نشر سابقا حول تحدي القوى البشرية، فإنه حين يتحقق الإجماع نستطيع تكوين الأرضية المشتركة لمناقشة الاستراتيجيات والخطط الممكنة والخطوات العملية لتفعيل الفائدة المرجوة من الدمج. جاء الدمج لتصحيح مسار تطور القوى العاملة أفقيا: كسر الحواجز بين موظفي القطاعين، ورأسيا: تثبيت المرونة والمنافسة الإيجابية بين الناس لإبراز الأفضل وتوزيع أمثل للواجبات والحقوق يتماشى مع استحقاقات الإنتاجية.
يتحدث كثيرون عن التعليم لكن يصعب إصلاح التعليم باختيار منظار مثالي، إذ دون علاقة حقيقية مع دور القوى البشرية في الاقتصاد ستستمر محاولة إصلاح التعليم مثالية كل يتشدق بها لكن لا يمكن تفعيلها. تحقيق وتفعيل هذه التوجيهات ليس سهلا بأي معيار ولذلك يحتاج إلى خريطة تخطيطية وتنفيذية واضحة لأن تحقيق الأهداف يحتاج إلى وقت ومتابعة لأعوام، بذل كثيرون ويبذلون جهودا كبيرة في عملهم وتعليمهم لكن البعض تعود على منظومة أغلبها متسامحة إلى حد عدم التماشي مع مقتضيات التقدم والتحدي الاقتصادي. هناك عدة عناصر للخريطة التخطيطية منها الحد من الهجرة الاقتصادية تحت ذريعة استقدام موظفين في كثير من الأعمال التي لا تتطلب تعليما تخصصيا أو مهارات مميزة.
هناك أعداد كبيرة من السعوديين لديهم الاستعداد والرغبة والحاجة إلى سد وظائف وسطى في السلم الوظيفي لكن تسهيل الاستقدام حرمهم هذه الفرص وعمل على تقليل دور الاستثمار في الآلة، لأن العمالة متدنية الأجور ولذلك ضربنا الإنتاجية من عدة جهات منها، دمج التأمينات والتقاعد كي يبدأ وينتهي الناس من منطلقات واحدة تساعد على التخطيط المهني والمالي للأفراد وتقليل التكاليف المالية المستقبلية على النظام المالي، ومنها إلغاء نظام الكفيل حتى تصبح سوق العمل أكثر مرونة وقابلية لتسعير العمل - العلاقة بين الأجر والعمل من ناحية وتجزئة المهام وساعات العمل من ناحية أخرى كي يصبح الأجر بالساعة ممكنا ـ، ومنها أيضا تحديد ساعات العمل خاصة في المحال التجارية والمطاعم السريعة للحد من الاستهلاك غير المنظم وإعطاء المواطن فرصة أكثر لتقنين ساعات العمل. لكن لن يكون التنفيذ سهلا وربما غير ممكن دون إعادة هيكل التعليم، أرى أن التنفيذ الفعلي والوصول إلى أهداف الدمج وتحقيق أهداف "الرؤية" تمر من باب هيكل التعليم.
إعادة هيكل التعليم أهم مسألة في التنفيذ الحقيقي ليس في ميدان القوى البشرية فحسب وإنما في تفعيل الحراك الاقتصادي، وتأكيد دور الإنتاجية. في كل الدول الناجحة لا تقبل الجامعات أكثر من 40 في المائة من خريجي الثانوية العامة وأحيانا أقل كما في سويسرا لأن الأغلبية لا تستطيع اجتياز تعليم أكاديمي على درجة من الكفاءة والموثوقية.
هيكل التعليم الحالي بقبول أعداد كبيرة في التعليم الجامعي جعل المستوى أقل من المطلوب وسهل تخريج أعداد كبيرة ناقصة التأهيل وسبب توقعات عالية، ما أحرج الحكومة بتوظيفهم وجعلهم غير معدين للوظائف الوسطى في القطاع الخاص، وحرم التعليم الفني المدني والعسكري أعدادا كبيرة واعدة. التعليم الجامعي الموثوق في مرحلة المملكة تنموي يحتاج إلى أفضل 30-35 في المائة من خريجي الثانوية العامة، والمستوى الثاني من خريجي الثانوية العامة 35-50 في المائة للتعليم الفني كي يرتقي ويصل إلى مستوى الجدارة حتى يستحق دخلا أعلى. نستطيع جعل التعليم الفني أكثر جاذبية حين يستطيع أفضل 25 في المائة منهم دخول الأكاديميات العسكرية. التعليم الجامعي السهل جعل الفائدة من البعثات لا تتناسب مع التكلفة وجعل النخبة التكنوقراطية أحيانا ضعيفة وغالبا غير متجانسة.
الدمج خطوة شجاعة في الاتجاه الصحيح لكنها لن تكفي، بل إن هناك مخاطرة من تشويه سوق القوى البشرية إذا لم نأخذ بها إلى النهاية المنطقية، الفرصة المالية التاريخية جعلتنا نتفادى الفرز البشري الضروري للتقدم الاقتصادي لكن الظروف الموضوعية تغيرت، ولذلك الدمج تبدأ رحلة جديدة قوامها حجما لتوازن أفضل بين العرض والطلب، ونوعا لرفع الكفاءة والإنتاجية. لدى المملكة فرصة تاريخية لإصلاح سوق العمل والتعليم والإنتاجية. بدأ القطار ولن يتوقف حتى تصبح المواطنة في السعودية من الأعلى تعليما وإنتاجية ودخلا مجزئا لطبقة فنية فخورة ومؤهلة.
نقلا عن الاقتصادية