تم دمج وزارة الخدمة المدنية مع وزارة العمل والشؤون الاجتماعية تحت مظلة واحدة باسم وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية. لعل هذا الدمج هو الخطوة العملية الأولى لإعادة هيكلة القوى البشرية، فهذه أهم الخطوات، التي تصب في تحقيق أهداف الـ"رؤية" وبرامج التحول الوطني. النفاذ من تصرفات الفعاليات الاقتصادية -الفردية والجماعية- لتكون أكثر إنتاجية في القطاعين العام والخاص على حد سواء.
فكرة الدمج وإعادة النظر في التجربة الوطنية بشريا تتطلب تكوين "إجماع" بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع لسبيين، الأول: أن التعامل مع النواحي البشرية من هذه العدسة الواسعة يتطلب درجة عالية من الصراحة والتعاون والدقة في الفكر والتنفيذ، والآخر: أن تجربة المملكة بعد خمسة عقود تحتاج إلى مراجعة، خاصة أن جزءا من الحلول كان نتيجة نصائح استشاريين دون معرفة كثير من الحيثيات الوطنية.
الدمج يدل على رغبة قيادية في تغيير أنظمة "اللعبة" جوهريا، لذلك لا بد من محاولة التوصل إلى طريق جديد. في هذا المقال والمقال المقبل سأتعامل مع عناصر الإجماع، وهيكلة سوق العمل والمعاني الاقتصادية العميقة للدمج والخطوات العملية للدمج من منظار اقتصادي.
أحيانا يكون الطرح الاقتصادي غير عملي، لأن الأهداف التي انطلقت منها غير متفق عليها بوضوح، فمثلا لن تجد أحدا ضد التوطين، لكن ما إن تدخل في خطوط عريضة للسياسة العمالية والتعليمية إلا وتجد اختلافات في الطرح، أغلبها بسبب ما تعود عليه كثيرون، وأحيانا سوء فهم وأحيانا أخرى بسبب المصالح، والبعض الآخر يعود للاختلاف حول تحديد الأولويات في الأهداف والوسائل في القرارات، وحول تعريف أين الاقتصاد الوطني في سلم التحدي التنموي؟ أو البعض الآخر يخلط بين التحدي التنموي والصعوبات الاقتصادية والمالية.
سنستمر في درجة من النقاش أو حتى الجدل غير المفيد دون إجماع حول تحديد عناصر الحالة الراهنة، أو كما يقول الاقتصاديون .The initial conditions هناك عدة عناصر ينبغي الاتفاق عليها، لتكوين إجماع..
الأول: ما تم إنجازه في المملكة بشريا وماديا تاريخي، ولا بد أن يستمر لأننا قادرون ولدينا طموح أعلى.
الثاني: النمو الاقتصادي في المملكة كان نتيجة الفرصة المالية التاريخية، وتسهيل استقدام العمالة الوافدة بالأخص الأقل تكلفة كعامل إنتاج، خاصة أن أغلبها يفقد الإعداد الفني والتأهيل العلمي ما نتج عنه تكبير الاقتصاد الوطني من خلال عوامل غير قابلة للاستدامة.
الثالث: هناك عدد كبير من الوافدين قياسا بعدد السكان والطبيعة المالية للاقتصاد، ما أدى إلى تقسيمات تخصصية في سوق العمل، فهناك وظائف للمواطنين وأخرى للوافدين، وهذه بدورها تعمل على تنوع آخر حسب المهن والقطاع، حتى الدول القادمين منها.
الرابع: الطبيعة الاستهلاكية للاقتصاد التي تضافرت مع سوق العمل، خاصة في القطاع الخاص غير الإنتاجي، ما نتج عنه تحويلات مالية ضخمة.
الخامس: تكاثر دور القوى العاملة الوطنية في القطاع العام، وبالتالي دور محدود في الإنتاج أدى إلى ضعف العلاقة مع التعليم في كل مراحله أفقيا ورأسيا.
السادس: ظاهرة توقع الوظيفة الحكومية وانخفاض التطور في القطاع الخاص أدى إلى نسبة مشاركة منخفضة، خاصة للنساء -هذه الحالة ساخنة في منظومة تصرفات لا تخدم التنمية والاقتصاد.
السابع: أصبحت القوى العاملة تعمل بأقل من إنتاجيتها الكامنة مقارنة بالدول المتوسطة.
الثامن: الحالة المعيشية الراهنة جيدة للأغلبية، ولذلك إقناع كثير بالحاجة إلى التغير ليست سهلة.
التاسع: هناك تردد في تكوين كادر موثق ومميز في التأهيل لإدارة الأجهزة العامة.
العاشر: النظرة والممارسة للتعليم في الأغلب تدور بين نظرة تقليدية أفقية تخدم وظائف القطاع العام، ونظرة أقرب للمثالية دون أخذ خطوات جريئة نحو النظرة الرأسية، التي تستطيع الفرز والمنافسة كي تصبح الجدارة أهم.
الحاجة إلى تكوين إجماع لا تعني أن آفاق الحل غير موجودة أو غير ممكنة، لكن البداية الحقيقية لكسر جمود الماضي الحديث، تتطلب تأطيرا مختلفا يبدأ بالإجماع لتحقيق أهداف الاقتصاد السامية. كلما اتفقنا على إجماع أكثر وضوحا تزداد فرص الانتقال إلى مرحلة تحديد استراتيجيات وسياسات ينخرط فيها الجميع.
الدمج يهدف إلى إعادة تشكيل القوى البشرية، ولذلك يستحق التقدير والانتظار، لأن مشروعا نوعيا يخص البشر لا بد أن يستغرق وقتا وطاقة وصقلا. فنحن نعاني سوق عمل مجزأة، يمكن وصف جوانب كثيرة منها بأنها صومعية "قوالب وجزر معزولة تعوق المرونة والتواصل العملي والتسعير الحقيقي للأيدي العاملة والإبداع".
يهدف الدمج إلى إعادة هيكلة جذرية للقوى العاملة في الاقتصاد الوطني، تجمع بين الحاجة إلى مجتمع أكثر قدرة تنافسية وتسخير الإنتاجية وترشيد التكلفة في القطاع العام وتأسيس قطاع خاص قوامه القوى العاملة الوطنية وربط أوثق مع العملية التعليمية. وفي المقال المقبل سنخوض في بعض الحيثيات الاقتصادية للأخذ بالدمج إلى مرحلة التنفيذ.
نقلا عن الاقتصادية