قبل عدة سنوات رأيت رسما كاريكاتوريا يشير إلى غريق في نهر يستنجد الناس، وشخص يمد له يده ولكنها ليست للمساعدة المباشرة بسحبه الفوري وإنقاذه، إنما تحمل طلبَ إنقاذ ليملئه ويتقدم به للجهات المختصة !!! وعُنون الرسم: بـ "البيروقراطية".
في الأصل البيروقراطية تعني حكم أو سلطة المكتب أو المكاتب، وهي مدرسة إدارية عريقة، تعتمد على التوثيق، وتنم عن تطور فكري وعملي في علم الإدارة ووظائفه، لاسيما الإدارة العامة.
في العصر الحديث، ومع تعقد الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتزايد أعداد الناس ورعايا الدولة،أصبحت البيروقراطية إيجابية في جوانب وسلبية من جوانب أخرى، لكن ثورة الاتصالات الحديثة وطفرة الانترنت،وتزايد الاعتماد على الحكومة الالكترونية، زاد من سلبية البيروقراطية التقليلدية الجامدة، خصوصا في ظل ضعف تطويرها وتحديثها، وأصبحت عبئا على المجتمعات والرعايا.
كتاب "محيط العطلنطي .. مذكرات بيروقراطي بالنيابة" كتاب رائع للأستاذ المؤلف زياد الدريس، وهو أشبه ما يكون برواية ساخرة في نقد البيروقراطية ومشاهدها في الإدارة العامة السعودية، وقد رغبت في كتابة لمحة عنه لأنه يستحق القراءة لاسيما من قبل العاملين في الإدارة الحكومية: رؤساء ومرؤسين.
ينتقد الكاتب الطريقة – البيروقراطية – المتبعة في إنجاز المعاملات والأعمال الإدارية الحكومية والتي أصبحت أشبه ما تكون بطقوس رسمية يجب تأديتها بشكل تراتبي، رغم أعبائها ودون التفكير بتطويرها أو اختزالها أو الحد من مضارها، فالمركزية، والخطابات والمعروض، ورقم المعاملة والأوراق المهترئة من كثرة اللمس والتواقيع، والكتاب الإلحاقي، ومرجعية القرار، والاستيضاحات، والملف العلاقي،،، ثم في جانب الممارسة: النوم في المكتب، كثرة الموظفين والمدراء، الغياب، تأجيل المعاملة، كثرة المستويات الإدارية، قلة الخبرة، عدم إدراك أهمية القرار،الانتفاع الشخصي من العمل الحكومي بلا وجه حق، وغير ذلك: كله كان محل نقد الكتاب وبأسلوب جذاب.
ويسلط الكتاب الضوء على سلبيات البيروقراطية الحالية وتطبيقاتها العقيمة في الإدارة، في جانب الروتين الممل،وتعقيد الأمور والمعاملات، وتعدد المستويات الإدارية بلا فائدة، وإطالة أمد العمل، وكثرة المراجعات، ونحو ذلك.
ويسرد الكتاب مشاكل البيروقراطية على شكل قصص يرويها أحد الإداريين المعينين في منصب الإدارة – بالنيابة – وليس بالأصالة.
ولم يكتف الكتاب بذكر المشكلة، بل تطرق إلى علاجها وحلولها أو بدائلها الإدارية، وفي المجمل: فإن الكتاب ينبه إلى حقيقة مرة: وهو كيف أن المصالح العامة ومصالح المراجعين تتعقد في ظل الروتين البيروقراطي، بينما حين يحل الفساد ومصلحة المسؤول أو الموظف الشخصية تتبسط هذه التعقيدات إلى أبعد درجة.
الكتاب يأتي بشواهد إدارية رائعة من الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويسقطها على بعض الوقائع الحالية المعاكسة للمقارنة، ففي الافتتاحية ترى قول عمر: "إني أريد رجلا إذا كان في القوم وليس أميرهم كان كأنه أميرهم، وإذا كان أميرهم كان كأنه واحد منهم"، كما يشير إلى قوله: "إنما بعثناكم ولاة، ولم نبعثكم تجارا".
أما لماذا تعبير (محيط العط لنطي)، فيقول الكاتب: هو مجرد توظيف لسعة المحيط وعمقه، حيث يتشابه ذلك مع السعة المهلكة والعمق المغرق للمحيط الإداري، القائم في معظم ممارساته على مبدأ (الشرط أربعون) ..الموجزة في النحت التشبيهي لعبارة (عط .. لنطي) ، ومن لا يعطي لا يُعطى !.
عندما تقرأ الكتاب من مقدمته، ثم فصول : "المأزق"، و "المعاملة المحمضة" تشدك إلى الفصول الأخرى كـ "سرطان التعاميم" و "جولة تفقدية .. دسمة" و "بند: (إلا إذا) " وأخيرا : "كيف تصبح انبطاحيا" و "أنت مدير فاشل" وما بعدها، لتنهي قرائته ربما بليلة واحدة: لكن فائدته بالنسبة للإدراي والمسؤول تستمر لفترات طويلة.
المفروض مثل هذة الكتب تطبع مجانا على حساب الدولة و تهدى لقيادات و ادارات المؤسسات الوطنية الحكومية. كلنا متفقين مع ما كتبت و مع ما كتب الاستاذ زياد...و لكن الكشف عن الجرح ليس علاجا له...نريد تضميد و علاج البيروقراطية ليس في مسار المعاملة وسرعتها فقط...و لكن بيروقراطية العقول في التعاطي مع الافكار و الحلول و التعاطي مع الاخر و مع المبادئ الانسانية السليمة و تجميد المتغيرات في ملفات المسلمات و من ثم تمجيدها. _________________ مقالك شيق استمر..و بعدين لف يمين يجيك جسر تعده قبل ثالث اشارة على اليمين.
قرأته فعلاااااااا جميل