خلصت دراسة ماكينزي التي تُعد معاييرها وأهدافها ركيزة أساسية في برنامج التحول الوطني إلى الحاجة لضخ استثمارات بقيمة 15 تريليون ريال حتى العام 2030م أي بمعدل تريليون ريال سنوياً بداية من العام القادم الذي يتوقع أن يكون بداية تنفيذ برنامج التحول، ويهدف استثمار هذا الرقم إلى توليد ستة ملايين فرصة عمل للمواطنين وتقليص الاعتماد على النفط في النمو الاقتصادي وزيادة إيرادات الخزينة العامة.
ورغم أن جذب هذه الأرقام الضخمة للاقتصاد يُعد تحدياً كبيراً جداً، إلا أنه بنهاية المطاف يعتمد على قدرة الأجهزة الحكومية بتنفيذ المطلوب منها لتكون منظماً وميسراً لقطاع الأعمال بخلاف تهيئة الكوادر البشرية وتأهيلها لسوق العمل، لكن هذا الرقم ما هو إلا تراكمات متوقعة للضخ مع انطلاقة التوسع بفتح الفرص الاستثمارية للقطاع الخاص المحلي والأجنبي، وقد يكون ببداية البرنامج حجم الأموال القادمة أقل من متوسط الرقم المستهدف بكثير إلا أن السنوات خصوصاً بعد مرور النصف الأول للبرنامج أي من العام السابع أو الثامن للبرنامج قد يكون حجم الأموال أعلى من المتوسط بكثير مع تقدم نجاح البرنامج خصوصاً السنوات الخمس الأولى حتى عام 2020 التي ستنفذ بها أهم مراحل البرنامج أي الأساس الذي سيسير عليه الاقتصاد بعدها بإستراتيجية وآليات واضحة وثابتة بخطوطها العريضة ومتغيرة ببعض الآليات والأساليب حسب الظروف والاحتياج من باب المرونة المطلوبة بأي خطط أو برامج كبرى.
لكن يبقى السؤال:
كيف يمكن التوسع بجذب هذا الحجم الضخم من الأموال؟.. وبداية فإن هذه المبالغ سيكون بالتأكيد جزءٌ منها استثماراً حكومياُ بالمفاصل الرئيسة التي تنشط أي قطاع مستهدف أو بالبنى التحتية التي تُهيئ الفرصة لجذب الاستثمارات الخاصة، وبحسب ما شاهدته وسمعته بورشة البرنامج الوطني للتحول التي تشرفت بحضورها، فإن ما سيتاح من مجالات للقطاع الخاص سيسهم بجذب الكثير من الأموال المستهدفة للاستثمار، سواء بالخصخصة أو بالمجالات التي ستركز على أن يكون القطاع الخاص هو المستثمر الأكبر بها كالصناعات التحويلية والتعدين وأيضاً بالتشييد عبر تنشيط القطاع العقاري ليصبح صناعة حقيقة تحرك مفاصل العديد من الأنشطة التي تستفيد من زيادة حجم البناء للوحدات السكنية والمنتجات العقارية عموماً.
إلا أن ما يجب الانتباه له أن السنوات الماضية شهدت نمواً كبيراً بالاقتصاد بسبب الإنفاق الحكومي والذي موّل ذاتياً من إيرادات الدولة وهو ما أدى إلى عدم قدرة القطاع الخاص على المساهمة بتمويل هذه المشاريع، سواء بإنشاء بعضها عبر أنظمة متبعة عالمياً بأسلوب مشاركة القطاع الخاص، أو من خلال طرح صكوك وسندات تنمية لتمويل تلك المشاريع، مما أدى إلى خروج أموال لدول مجاورة أو أجنبية للاستثمار بالعقارات وغيرها من القنوات الأخرى، فالمستثمر لا يمكن أن يجمّد أمواله إذا كانت القنوات الاستثمارية قليلة أو محدودة لاستيعاب ما يطمح له من ضخ لاستثماراته، فيضطر للاستثمار بالخارج حسب الفرص المتاحة، ويُلاحظ أن السعوديين يُعدون من الأكبر بين المستثمرين العرب سواء بدبي أو تركيا أو لندن أو أميركا سواء بالعقارات أو السندات أو الأسهم والتي تقدر بمئات المليارات من الريالات خصوصاً بالسنوات العشر الماضية حسب دراسات وأرقام كثيرة معلنة يمكن لأي مهتم أن يجدها بمواقع ومراكز مختصة برصد الاستثمارات بالعالم، فعلى سبيل المثال ضخ السعوديون أكثر من 24 مليار ريال في عقارات دبي بعام 2014 م، فيما يُقدر حجم الاستثمارات في بريطانيا بحوالي 360 مليار ريال.
فتعزيز القدرة على نجاح جذب الأموال للاستثمار بالاقتصاد المحلي حسب ما ذكر بتوصيات ماكينزي يتطلب إعادة النظر بجوانب رئيسة عديدة لا تقف فقط عند الخصخصة أو بفتح الفرص الاستثمارية بالقطاعات المستهدفة، بل يتطلب إعادة النظر بطرق إدارة التدفقات النقدية ومصادر التمويل، ولا بد من التوسع بتراخيص البنوك لتقفز إلى عدة أضعاف الرقم الحالي عند 12 بنكاً تجارياً، إذ لا يُمكن أن يُدار الاقتصاد بقطاع تمويلي محدود العدد فهذا الأمر جزء أصيل من القدرة التي تمكّن من تحريك جذب الاستثمارات وتطوير قطاع المال لدينا وتوزيع المخاطر فيه، بالإضافة إلى التوسع بدور السوق المالية لتكون رافداً رئيساً للتمويل والاستثمار، فرؤوس أموال البنوك المحلية حوالي 160 مليار ريال تعادل 5.6%من الناتج المحلي و7% من حجم الأصول التي تمتلكها وتديرها وحوالي 1% من حجم الأموال المستهدف جذبها للاستثمار محلياً وحوالي 16% من الرقم المتوسط لمستهدف سنوياً ببرنامج التحول الوطني مما يعزز النظرة إلى ضرورة زيادة عدد البنوك لتسهم بالدور المطلوب منها بالتمويل وتعظيم دور القطاع المالي بالتنمية والأهداف المرصودة بالبرنامج.
إن جذب الاستثمارات بهذه الأرقام الضخمة ليس بالأمر المستحيل إذ توفرت العوامل التشريعية والتنظيمية والرقابية التي توفر العدالة بتوزيع وتنافسية القطاع الخاص على الفرص المتاحة إلا أن هيكلة القطاع المالي لرفع عدد المؤسسات المالية من بنوك ومصارف تجارية ومتخصصة بعدد كبير وتوطين هذه الصناعة المهمة وتطوير المصرفية الإسلامية وكل السبل المؤدية لتعدد قنوات التمويل والاستثمار فيه يُعد اللبنة الرئيسة لنجاح برنامج التحول الوطني في الجانب التمويلي والداعم والمحرك لنشاط جذب الاستثمارات للاقتصاد ورفده ليس فقط بالأموال بل بحسن إدارتها وتدفقها وكذلك المساعدة على نجاح الاستثمارات من خلال طرق مبتكرة تدعم المستثمرين بإدارة تمويل مشاريعهم ومساعدتهم على تقليل المخاطر وتعظيم المكاسب.
نقلا عن الجزيرة