بات الحديث عن مشروع التحول الاقتصادي سيد الموقف.
أهميته المطلقة، لاقتصاد ريعي يعتمد في حركته ونموه على إيرادات النفط، جعلت منه محوراً للبحث والنقاش.
نعترف أن تنويع قاعدة الإنتاج، ومصادر الدخل الحكومي لم يكونا طارئين على واضعي خطط التنمية منذ الخطة الخمسية الأولى، ما يؤكد رؤية الحكومة الإستراتيجية، واعترافها بأهميتهما، ومخاطر الاعتماد على مصدر أحادي للدخل.
وضوح الرؤية الإستراتيجية ليس كافياً لتحقيق الأمنيات، والأهداف المستقبلية، ما لم ترتبط بخطط وبرامج محددة، وآلية عمل ملزمة التنفيذ للوصول نحو الهدف الأسمى.
كتبت مطلع العام 2006 مقالة بعنوان «إمكانية الاستغناء عن إيرادات النفط خلال 20 عاماً» أشرت فيها إلى استحالة أن «يكون مستقبل الأجيال القادمة مطمئناً ما لم تتضافر الجهود من أجل خلق موارد مالية مستقلة عن الموارد النفطية، فلدى السعودية الكثير من مصادر الدخل غير المفعّلة، والكثير من القطاعات الاقتصادية غير المطروقة تمثّل في مجملها موارد مستحدثة لموازنة الدولة..
يمكن من خلال الصناعة والاستثمار تحقيق التوازن المنشود في إيرادات الدولة، وزيادة معدلات النمو وتطوير المجتمع بأكمله، واختتمت المقالة بالتأكيد على أن «في مثل هذه الظروف غير الاعتيادية، ومع توافر الفوائض المالية الضخمة، يمكننا أن ننجح في تحقيق أهدافنا الإستراتيجية وتأمين حياة أفضل لأجيالنا القادمة من خلال الاستغلال الأمثل للثروات المتاحة، ومن خلال تأسيس الصناعات وتنمية القطاعات الاستثمارية التي ستعيننا، بإذنه تعالى، على التحرر التدريجي من الاعتماد على الإيرادات النفطية في مدة زمنية قد تقل عن العشرين عاماً».
لم تكن تلك المقالة الوحيدة التي تناولت فيها أهمية تنويع مصادر الاقتصاد والدخل الحكومي، بل تبعتها مقالات كثيرة مفصلة، ركزت فيها على أهمية هيكلة التعليم، وتطوير مخرجاته، تحفيز القطاع الخاص وتطويره، تفعيل قطاعات الاقتصاد المهمشة، وتحقيق كفاءة العمل الحكومي كقاعدة لتحقيق الهدف الإستراتيجي.
غالبية الزملاء والمختصين تناولوا أيضاً ملف التنوع وأهميته والتحذير من مغبة الاعتماد على النفط كمحرك للاقتصاد ومموّل للموازنة، إضافة إلى دراسات متخصصة قدمت تباعاً من مؤسسات حكومية معنية بالشأن النقدي، المالي، والاقتصادي.
إدارة الأبحاث الاقتصادية في مؤسسة النقد العربي السعودي من الجهات المتميزة في تقديم الدراسات الاقتصادية الموثوقة، والتي توازي في أهميتها وكفاءتها ما تقدمه بعض شركات الاستشارات العالمية، إن لم تتفوق عليها.
الدراسات المرتبطة ببيئتنا الاقتصادية قد تكون أكثر واقعية وشمولية وعمقاً، إضافة إلى عنصري «المصداقية والأمانة» التي ربما غُيبتا عن بعض الدراسات الموجهة لتحقيق أهداف عكسية.
كفاءات شابة متمرسة تحمل درجات أكاديمية عليا، مهتمة بالبحث والتطوير، وتقديم التوصيات المهمة القادرة على إحداث التغيير الأمثل.
تمكين هؤلاء الشباب، وتحفيزهم قد يقودنا نحو التحول الاقتصادي المنشود.
أحسب أن ورقة عمل «تحديات تنويع القاعدة الإنتاجية في المملكة العربية السعودية» المقدمة من «إدارة الأبحاث الاقتصادية» في «ساما» من أوراق العمل المهمة التي كشفت عن مصدر الداء ووصفت الدواء بأسلوب علمي مختصر بعيداً عن الأضواء والضوضاء..
وغيرها الكثير من أوراق العمل والدراسات المهمة التي يبدو ألا أحد يشعر بوجودها على موقع «ساما» على النت، فزامر الحي لا يطرب، كما تقول العرب في أمثالها.
عندما أُنشئت «سابك» بسواعد وعقول سعودية شابة مخلصة، ووجهت بانتقادات غربية حادة، وصلت حد التهكم. الأمر عينه واجهته مشروعات إستراتيجية قامت بها أرامكو السعودية بمعزل عن دراسات الغرب وسواعدها التي لا تتمنى الخير لنا..
أزعم أن نجاحات المملكة الكبرى في قطاع الصناعة كانت نتاج فكر الشباب الطموح بمعزل عن الاستشارات الغربية التي لم تخل يوماً من التوجيه المتعمد.. وهذا لا يقتصر على الجانب الصناعي، بل أزعم بتغلغله في جميع قطاعات الدولة.
الاستئناس بدراسات بيوت الخبرة العالمية أمر جيد، إلا أننا في حاجة ماسة لدعم الجهود المحلية الكفؤة، وإعطائها حقها، والاعتماد عليها كمرجعية لتمحيص الدراسات الغربية والمشاركة في إعدادها، وبما يضمن مطابقة مخرجاتها مستقبلاً، أهدافها المعلنة.
أجزم أننا لا نعاني شح الدراسات المتخصصة، بل بطء العمل والتنفيذ ومواجهة التحديات وتقبل آلام التغيير، والدليل أننا احتفظنا بهدف تنويع مصادر الدخل منذ الخطة الخمسية الأولى قبل خمسين عاماً، ولم ننجز منها شيئا حتى اليوم.
التحول الاقتصادي في حاجة إلى عمل دؤوب، وبرامج ملزمة ومؤشرات لقياس الأداء، إضافة إلى مواجهة الواقع وتحديات الممانعة والتذمر، والقبول بتحمل ألم التغيير وانعكاساته المجتمعية.
برغم الجدل الدائر حول دراسة التحول الاقتصادي المطروحة حالياً، أعتقد أن كل حركة موجهة نحو «تنويع الاقتصاد» فيها من الخير الكثير.. فطريق الألف ميل تبدأ بخطوة، شريطة أن تكون في الاتجاه والزمن الصحيحين.
نقلا عن الجزيرة