تواجه التاجر، فردا كان أو شركة، مشكلات وصعوبات مالية، يتعين معها التدخل؛ لحماية حقوق الدائنين من التلاعب والإهمال.
فعلى سبيل المثال، قد يقوم هذا التاجر، بتحويل جزء من الأموال، أو عقد صفقات وهمية، أو الإقرار بديون غير حقيقية؛ يكون الغرض منها الإضرار بالدائنين وتهريب الأموال وإخفائها.
وتزيد هذه الإشكاليات في حالة كون المدين شركة ذات مسؤولية محدودة؛ لأنه في هذه الحالة، تكون حقوق الدائنين محصورة في أصول الشركة ولا تتعداها إلى ملاكها أو مساهميها - مما يتوجب معه حماية أصول الشركة من لحظة إعلان تأسيسها-. لذا يتعين التدخل بقانون يحمي مصالح الدائنين، ويوضح الالتزامات الإضافية على التاجر أو مجلس الإدارة في فترة الريبة، وفترة وقوع الصعوبات المالية، ويضع جزاءات على من يتجاوز هذه الالتزامات بما يضر بمصالح الدائنين.
إن الصعوبات المالية التي تواجه الأعمال التجارية، يمكن تقسيمها إلى قسمين: الأولى تتعلق بنفاذ السيولة “illiquidity”، ولا علاقة لها بالمركز المالي للتاجر، فقد يكون مركزه المالي جيدا، وسببها سوء إدارة السيولة أو حدوث أمور لم تكن متوقعة.
المشكلة الثانية الإعسار “insolvency”، -ويجب عدم الخلط بينه وبين الإفلاس "bankruptcy"، أو بينه وبين الإعسار المدني- وهو زيادة الخصوم على الأصول، وهذا لا علاقة مباشرة له بمشكلة السيولة، فقد يكون التاجر معسرا، لكن لديه سيولة لتسيير عمله على المدى القصير.
نستنتج من ذلك أن الإعسار، قد لا يلزم منه نفاذ السيولة؛ كما أن نفاذ السيولة قد لا يلزم منه الإعسار. وهاتان المشكلتان مهمتان عند بحث مسألة إفلاس التاجر أو حل شركات المسؤولية المحدودة.
لقد عرف نظام المحكمة التجارية الصادر عام 1350هـ، التاجر المفلس بأنه "من استغرقت ديونه جميع أمواله فعجز عن تأديتها".
لذا فإنه في نظر النظام، الإفلاس يتحقق في استغراق الديون لأموال التاجر، وهذا يعني بإعسار التاجر، لكن هذا الاستغراق أو الإعسار ليس كافيا، بل لا بد أن يتبعه عجز عن دفع الديون أي مشكلة نفاذ في السيولة.
مع العلم بأن النظام غير واضح في المقصود بالعجز عن دفع الديون، هل يخص الديون الحالة أم جميع الديون؟
إن هذا التعريف للإفلاس يخص التاجر الفرد، والتاجر المسؤول عن ديون شركته في جميع أمواله، وبالتالي فهو وإن كان يمكن استخدامه في الشركات محدودة المسؤولية، إلا أنه لا يتسق مع التطور في نظام الشركات وظهورها كشخصية اعتبارية مستقلة عن الشركاء، مما يترتب على إعسارها حلها وتصفيتها وإنهاء وجودها، لا إعلان إفلاسها، كما هو الحال في التاجر الفرد أو التاجر الشريك المسؤول عن ديون شركته مسؤولية غير محدودة.
لذا تطلب الأمر تحديداً أكثر لمعني الإفلاس، والتفريق بينه وبين الاعسار؛ لتتحقق حماية الدائنين وغيرهم من المتعاملين مع الشركة ذات الكيان المستقل ذي المسؤولية المحدودة.
ونظرا لهذا القصور ولعدم وجود إجراءات واضحة للإفلاس في النظام، فقد بدأت وزارة التجارة بخطوات الغرض منها إصدار نظام للإفلاس، وذلك بنشر تقرير بعنوان "السياسات العامة في شأن مشروع نظام الإفلاس في المملكة العربية السعودية" على موقع الوزارة على الشبكة الإلكترونية.
لا شك أن هذا التقرير، قد وضح الاتجاه العام الذي سيسير عليه نظام الإفلاس في المملكة العربية السعودية. فقد جعل التقرير المحك الرئيس لبدء الإجراءات، التوقف عن دفع الديون في وقتها، وهو ما عُبر عنه في التقرير بمعيار التدفقات النقدية (مشكلة نفاذ السيولة)؛ ويقابله معيار المركز المالي أو الميزانية، وهو الذي ينظر في خصوم وأصول التاجر (مشكلة الإعسار).
وهذا المعيار الأخير، معيار مهم عند النظر في استمرارية العمل التجاري، خصوصا في الشركات التي تتمتع بخاصية المسؤولية المحدودوة بجميع أنواعها، لأن هذا النوع من الشركات مُجبر على تعيين مراقب حسابات. وبالتالي فإنه بالنظر في التقرير السنوي يمكن معرفة المركز المالي للشركة.
أما التاجر الفرد، والمسؤولون عن ديونهم مسؤولية غير محدودة، فإنه قد يصعب معهم استخدام معيار المركز المالي أو الميزانية.
لكن هذه الإجراءات لن تبدأ بشهر الإفلاس أو الحل والتصفية، بل إن هناك إجراءين مهمين سيضعهما النظام؛ لتحقيق هدف استمرارية العمل التجاري في حال كان هذا المشروع يستحق البقاء.
الأول إجراءات التوفيق، وفيها يتقدم المدين بخطة مصالحة مع الدائنين، ومن خصائص هذه المرحلة، احتفاظ المدين بحق الإدارة للعمل التجاري، وإجبار بعض الدائنين على الخطة المقترحة، وتعليق المطالبات المالية لفترة قصيرة بناء على أمر من القاضي. الثاني إجراءات إعادة التنظيم، وهي تشبه إلى حد كبير إجراءات التوفيق، إلا أنها تختلف عنها في أن المدين يُمنع من الإدارة، وفي هذه الحالة يتم تعيين أمين للتفليسة.
يأتي بعد ذلك، مرحلة الإفلاس والتصفية، وهي الملاذ الأخير، ويتم اللجوء إليها، في حال تكون قناعة أنه لا جدوى من استمرار المشروع التجاري، مما يتعين معه تصفيته، لحفظ حقوق الدائنين من مزيد من الخسائر.
كما أن التصفية قد تكون بأسباب أخرى غير الإفلاس، كإنتهاء مدة الشركة وعدم صدور قرار من الشركاء بزيادة المدة.
إن هذا المشروع الجبار، خطوة طال انتظارها، وأرجو أن لا يُغرِق القائمون على هذا المشروع في دراسة طويلة للأنظمة السبعة التي اختاروها، لدرجة تؤدي إلى تأخير صدور النظام. فمهما حرص القائمون على هذا المشروع على سد الثغرات القانونية والنظامية، فإنه ستظل هناك ثغرات، كما أن هذا النظام ستتم دراسته في مجلسي الشورى والوزراء قبل إصداره بمرسوم ملكي.
لذا فإن الهدف الرئيسي حاليا هو إنهاء هذه الخطوات بأسرع وقت ممكن؛ أما الثغرات أو المشكلات التي تظهر لا حقا عند التطبيق، فيمكن تداركها، بإصدار تعديل، أو إضافة للنظام. كما أنه في هذه الحالات يأتي دور الجامعات، ممثلة في أكاديمييها، وطلابها للدراسات العليا، في دراسة جوانب من النظام والخروج بتوصيات؛ تعين على تطويره لاحقا.