من يتابع الموقف في فلسطين عموما وفي غزة على وجه خاص، يجد أن شعبنا الفلسطيني البطل يكتب اليوم بصموده وبسالته في مواجهة العدوان الصهيوني الهمجي، فصلا مجيداً في تاريخ المنطقة العربية، وأنه في الوقت الذي ظنت فيه إسرائيل أن الوقت قد حان لتصفية المقاومة وتركيع الشعب، إذا به يصعقها اليوم بما بات لديه من إمكانيات وقدرات وإبداعات تفوق غروره وخياله المريض. وفي حين تمكنت قوى الشر والظلام من إضعاف موجة المد الثوري في عالمنا العربي وحرفت بوصلتها عن مسارها الصحيح، فإن مفاجئات المقاومة في مباغتة العدو بهذا الكم الكبير والمتطور من الصواريخ، وفي اقتحام قواعده وتفجيرها في عسقلان وكرم أبوسالم، قد أعطت بارقة أمل في إعادة صياغة الموقف العربي المتدهور. وقد مارست المقاومة هذا الدور المتميز منذ عقود.... فبعد هزيمة 67 تفجر النضال الواسع ضد مستعمرات العدو من خارج الوطن،،، وبعد اجتياح بيروت وحرب الإبادة على المخيمات في الثمانينيات انطلقت الانتفاضة الأولى، وخرجت حماس إلى الوجود عام 1987.
ورغم الحصار الدائم على القطاع منذ عام 2007، إذا بالمقاومة تتطور كماً وكيفاً وتتمكن من الصمود في مواجهة عدوانين كبيرين عامي 2009 و2012، وتأسر جندياً تتمكن من مبادلته بأكثر من الألف من الأسرى في سجون الاحتلال.
وفي الوقت الذي اشتد فيه الحصار على أهل غزة، وتم تدمير الأنفاق التي تمثل لهم شريان الحياة مع العالم الخارجي، وفي الوقت الذي تداعى فيه الموقف العربي في الشام والعراق وليبيا واليمن، وبات ظهر أهلنا مكشوفاً من أي دعم عربي وإسلامي مؤثر،، إذا بشعبنا في الداخل يُصلح ما أفسده الدهر بين فصائل المقاومة وأجنحتها الرئيسية فتح وحماس، ويخرج الشعب في غزة والضفة موحداً تحت راية واحدة... وقد ظن نتنياهو وزمرته الخائبة أن الأمر لا يحتمل السكوت، وأن الوقت قد حان لتفجير الوضع الفلسطيني بعدوان جديد يكون كفيلاً بإنهاء المقاومة في غزة والضفة وتصفية ما تبقى من القضية...وهنا كانت المفاجأة المدوية... بالقدرات المتطورة لحماس وفصائل المقاومة على الوصول إلى تجمعات العدو القريبة والبعيدة؛ ليس فقط عبر صواريخ متطورة يصل مداها إلى حيفا وتل آبيب والقدس وبئر السبع،،، وإنما القدرة على اختراق دفاعات العدو من البحر، وعبر الأنفاق الطويلة تحت الأرض، وفي القدرة على إسقاط طائراته الحربية. والأهم من ذلك أن شعبنا المتسلح بالإيمان لم يعد يخيفه القصف الغاشم، بل بات ينتظره على أسطح المنازل باعتباره الطريق إلى الجنة الموعودة... فهم في أرض الرباط مع عدو غاشم،،، وقد وعدهم الله ورسوله بالنصر أو الشهادة. وفي المقابل فإن استمرار المقاومة في إطلاق صواريخها المتطورة على معسكرات العدو ومستوطناته،، قد أعاد الصهاينة إلى التزام الملاجئ بعد أن ثبت فشل قبتهم الحديدية في اعتراض كل صواريخها المُرسلة.
والخلاصة... أن شعبنا الذي خرج من دياره لاجئاً في عام 1948 بعدد مليون لاجئ تفرقوا في الشتات،، أصبح اليوم يُعد بالملايين في غزة والضفة فضلاً عمن تبقى منهم في أراضي عام 1948. وهذا الشعب أصبح اليوم متعلماً يحمل أعلى الشهادات، ومتسلحاً بحب المقدسات وبإيمان راسخ بأن الله ناصره... "فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا". ثم إن الأهل خارج الوطن قد شمروا عن سواعدهم لدعم أهلهم في الداخل بالمال... ولا ننسى أنه رغم تواطأ البعض في الساحة العربية،، فإن الله قد قيض لشعبنا المجاهد من يُعين الشعب على عدوه بالدعم والمناصرة،،، وهؤلاء جند من جنود الله يشاركون شعبنا في الصمود والمقاومة.. وفي المقابل فإن الاقتصاد الإسرائيلي يواجه تبعات وتكاليف باهظة ثمناً لعدوانه الغاشم؛ نتيجة تشغيل قبته الحديدية وسلاحه الجوي وآلته العسكرية واستدعاء جنود الاحتياط، فضلاً عن تعطل دولابه الإنتاجي عن الدوران، وخسائر بورصته المالية، واستنفار قواته في مناطق الضفة الغربية... والأهم من ذلك أن ديمومة الحرب واستمرارها يضغط باتجاه حدوث هجرة معاكسة إلى خارج الأرض المحتلة، وفي ذلك كله إضعاف للاقتصاد الإسرائيلي.
لا أقول في النهاية إن معركتنا مع العدو المدجج بكل أنواع الأسلحة سهلة وميسورة... ولا أقول إن لدى شعبنا طاقية سحريه تحميه من بأس العدو وجبروته... ولكنه الإيمان الذي يصنع المعجزات ويعين على الصبر... فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون...