لا تقتصر الضبابية في إدارة الرئيس أوباما على سياسته الخارجية، بل تمتد إلى عدد من العناوين الاقتصادية للبرنامج الانتخابي الذي على أساسه تم انتخابه.
ونجدها في إصراره أن تكون سياساته كبيرة العائد لكن متدنية الأخطار، محاولاً الجمع بين الشيء ونقيضه. فمن جهة يريد أن تبقى أميركا الدولة العظمى ولكن من دون تحمل تبعات هذا الدور من مسؤوليات وأثمان، كما في قضية انبعاثات الغازات الضارة مثلاً.
وبالتالي أدت استحالة الجمع بين التناقضات إلى تراجعه عن الكثير مما وعد به ناخبيه والعالم. فالتغيير الذي كان عنوان حملته الانتخابية يتطلب اتخاذ قرارات صعبة، لم يكن مستعداً لاتخاذها.
فكان من الطبيعي أن تتراجع شعبيته، بخاصة بين المستقلين، وتضعف بالتالي قدرته على تمرير مشاريعه في الكونغرس، على رغم دعوته، في بداية إدارته، أخصامه الجمهوريين إلى التعاون، معززاً هذه الدعوة بالاحتفاظ ببعض الشخصيات البارزة في الحزب الجمهوري في إدارته كوزير الدفاع في إدارة الرئيس بوش روبرت غيتس، وغيره.
ليس أدل على هذا الوضع من لجوء الإدارة الأميركية إلى استخدام الآليات التنفيذية لتمرير ما أمكن من السياسات، كتــــعويض جزئي للعجز في تمرير مشاريع القوانين في الكونغرس، إضـــافة إلى الاعتماد الزائـــد على الإجراءات الرمزية التي لا تمثل بديلاً عن الانجاز الفعلي للوعود الانتخابية التي اختاره الشعب على أساسها.
تجلى هذا السلوك في سياسات الطاقة وعلى قدر كبير من الوضوح. فنظراً لعدم قدرة الإدارة على إقرار مشروع على المستوى الفيديرالي للحد من نمو انبعاثات غازات الدفيئة، لجأت إلى توسيع صلاحياتها المنظمة للملوثات لتشمل انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون، على رغم أن صفة التلوث قد لا تنطبق على هذا الغاز.
كما يأتي التقرير التقويمي لتغير المناخ، الذي صدر الشهر الماضي وشارك في إعداده ما يزيد على 300 خبير جاؤوا من مختلف الوزارات المختصة فضلاً عن مؤسسات فيديرالية ومراكز بحوث ينتمي معظمها إلى السلطة التنفيذية، في إطار زيادة الضغط على المعارضين لأجندة أوباما البيئية.
اذ يربط التقرير التغيرات المناخية بالأحداث البيئية التي خبرتها أميركا الشمالية خلال السنوات الأخيرة ومن بينها العواصف والفيضانات وحالات الجفاف وفشل المحاصيل الزراعية، بزيادة انبعاثات الغازات الدفيئة الناتج من النشاط الإنساني، ليتوافق مع التقرير الخامس للفريق الدولي للتغير المناخي التابع لمنظمة الأمم المتحدة الذي صدر أيضاً مطلع السنة.
أما على صعيد الإجراءات الرمزية، فيأتي على رأسها تدشين الألواح الكهرشمسية على سطح البيت الأبيض الشهر الماضي.
كما يأتي من بينها تأخير قرار الإدارة الأميركية بشأن الموافقة على إنشاء خط أنابيب «كييستون» الذي يهدف إلى نقل الزيت الرملي من منطقة ألبرتا الكندية إلى الساحل الشرقي للولايات المتحدة. اذ تعارض القوى المدافعة عن البيئة إنشاء هذا الأنبوب بهدف إعاقة إنتاج النفط الكندي الثقيل.
وتكمن المفارقة في أن عدم إنشاء الخط لن يوقف إنتاج النفط الكندي الذي سيتم نقله عندها بالقطارات والحاويات البرية والمائية، أي وسائل بديلة قد تشكل أخطاراً بيئية أكثر من ما يشكله خط الأنابيب.
لكن سياسة الحكومة الفيديرالية تبقى، مع أهميتها، ومن دون سن تشريعات جديدة مؤثرة، محدودة التأثير على مجمل التطورات في سوق الطاقة الأميركية، لأسباب أبرزها التأثير المهم للسياسات المحلية (على صعيد الولاية) والتي تتباين بين الولايات الخمسين، بناء على المعطيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بخاصة مدى وفرة موارد الطاقة وأنواعها في كل منها. كذلك تعدد قوى الضغط المختلفة ذات الأجندات الخاصة وتنوعها.
فهناك قوى ضغط فاعلة وراء كل نوع من أنواع الطاقة. وان كان الدعم الحكومي لمصدر معين هو الترجمة الفاعلة للسياسة، فمن النادر أن نجد مصدراً للطاقة في السوق الأميركية لا يلقى دعماً مباشراً أو غير مباشر. وبالتالي يصبح لقوى الضغط ومدى تأثيرها على السياسات المحلية والفيديرالية، الدور الأكبر في تحديد الاتجاهات المستقبلية.
هناك معطيان رئيسيان يتوقع لهما أن يشكلا إطار الحوار والمنافسة في سوق الطاقة الأميركية ويحددا مسارها خلال السنوات المقبلة. الأول هو تنامي الأهمية الاقتصادية والإستراتيجية لموارد النفط والغاز الصخري، حيث أصبح السبب الرئيس وراء تراجع صناعة الفحم الأعلى كلفة والأكثر تلويثاً.
كما ساهم هذا المعطى في إضعاف تنافسية الصناعة النووية، حيث يبقى أمل هذه الصناعة في الاستمرار معقوداً على تعاظم القلق من ظاهرة التغير المناخي فضلاً عن تطوير تقنيات جديدة تتسم بدرجات أعلى من الأمان والمرونة، أقل كلفة من المحطات القائمة حالياً.
أما المعطى الثاني فهو تزايد القلق حول ظاهرة التغير المناخي وأثرها الاقتصادي والبيئي، وهذا يعزز أساساً مسار الطاقة المتجددة والطاقة النظيفة التي تشهد نمواً سريعاً، كما أنه يدعم نسبياً مسار الطاقة النووية. في المقابل يساهم هذا المعطى في إضعاف تنافسية مصادر الطاقة الأحفورية، بخاصة الفحم، بينما إحلال الغاز الصخري بديلاً للفحم يصبح إجراء مرحلياً غير مستدام في حال تفاقمت قضية التغير المناخي.
لكن العائد الاقتصادي والاستراتيجي الكبير لموارد النفط والغاز الصخري سيصبح عائقاً مهماً، في هذه الحالة، أمام بروز إستراتيجية بيئية واضحة المعالم.
نقلا عن الحياة