على رغم النفي المتكرر لكبار المسؤولين في «أوبك»، وجود أهداف سياسية خلف قرار المنظمة عدم خفض إنتاجها لدعم سعر النفط، تصرّ تحليلات كثيرة لمراجع مختلفة على وجودها وتستهدف كلاً من إيران وروسيا فضلاً عن منتجي النفط غير التقليدي.
لكن معظمها يتنكر للأسباب والعوامل الموضوعية وراء التراجع السريع للأسعار. كما أن بعضها يفصح عن أجندات تخدم أغراضاً خاصة باعتمادها نظرية المؤامرة التي تعفيها من الاستناد الموضوعي إلى الرأي والتحليل.
حيث أن بعضهم استخدم القرار للتشهير بالمنظمة واتهامها باستخدام النفط سلاحاً في معركة سياسية، وبعض آخر أراد أن يصب الزيت على نار العلاقات الخليجية، أو التشكيك في سيادة القرار الاقتصادي لـ «أوبك».
والواقع أن التراجع الكبير في أسعار النفط يعود الى عوامل موضوعية تستبعد نظرية المؤامرة الى حد كبير.
وتكمن هذه العوامل في الأسباب التي جعلت أسعار النفط ترتفع خلال السنوات الخمس الأخيرة الى مستويات تفوق كثيراً المستوى الذي تبرره المعطيات الاقتصادية المتمثلة بمعادلة العرض والطلب على النفط.
هذا المستوى للسعر تحدده الكلفة الحدية، أي كلفة النفط غير التقليدي المتمثل بنفط الرمل الزيتي والنفط الصخري ونفط المياه العميقة.
وبناء على مصادر متعددة من بينها صندوق النقد الدولي، فإن متوسط سعر التعادل لهذه النفوط، أي السعر الذي يجعل إنتاجها مربحاً، هو 74 و 62 و 57 دولاراً للبرميل على التوالي.
لكن سعر النفط فاق هذه المستويات بهامش كبير خلال السنوات الماضية حيث وصل الى 115 دولاراً في النصف الأول من العام الماضي.
وهذه المستويات لا تبررها معطيات العرض والطلب بل جاءت نتيجة عوامل أخرى غير اقتصادية أبرزها ارتفاع منسوب القلق حول أمن الإمدادات نتيجة أحداث ما سمي الربيع العربي وهو ناتج من الخوف من امتدادها الى بعض الدول الرئيسة المصدرة للنفط.
فضلاً عن ان انخفاض امدادات بعض الدول المنتجة مثل ايران والعراق وليبيا والسودان وغيرها أو عدم استقرارها لأسباب أمنية أو سياسية، أدى الى انخفاض مستوى قدرات انتاج النفط الاحتياطية.
وهذا عزز بدوره القلق حول كفاية الإمدادات المستقبلية من النفط في ظل توقعات النمو المرتفع في الاستهلاك في الدول النامية مثل الصين والهند والدول النفطية في الشرق الأوسط وغيرها.
مثّلت هذه العوامل غير الاقتصادية ركائز تستند إليها مستويات الأسعار المرتفعة وتستمد صلابتها من استمرار هذه العوامل وقوتها. وفي حال زالت هذه العوامل أو انحسرت قوتها، خلفت وراءها فقاعة أسعار تنتظر الحدث الذي يفجرها.
وهذا ما حدث مع ما شهدته المنطقة من تطورات سياسية وأمنية خلال العام الماضي، كان من أبرزها تراجع أخطار تمدد الاضطرابات الأمنية في المنطقة وانطلاق المفاوضات بين ايران ومجموعة الخمسة + 1 حول ملفها النووي، ما عزز التفاؤل بحل سلمي لهذا الملف واحتمال رفع العقوبات.
ثم التغيير الحكومي في العراق الذي أدى الى انفراج نسبي في العلاقات الإقليمية وتحسن في العلاقات بين الحكومة المركزية ومكونات المجتمع العراقي.
اذ تزامنت هذه التطورات مع زيادة الثقة بعدم قدرة «داعش» على تهديد الإمدادات النفطية وبدء انكفائها عسكرياً. ولعل هذا العامل الأخير الذي فجر فقاعة السعر الأمنية وأدى الى بدء تراجع الأسعار في منتصف عام 2014.
وواكب هذه التطورات الأمنية مستجدات اقتصادية خلال النصف الثاني من عام 2014، كان ابرزها صدور توقعات صندوق النقد الدولي في تشرين الأول (أكتوبر)، الذي حذر من تراجع النمو الاقتصادي في معظم دول العالم بخاصة الصين، وبالتالي انخفاض الزيادة في الطلب المتوقع على النفط في عام 2015 الى نحو مليون برميل يومياً فقط. في حين أن الإنتاج العالمي للنفط كان يشهد نمواً ملحوظاً بفضل ارتفاع إنتاج النفط الصخري في شمال أميركا، حيث فاق الإنتاج العالمي الطلب بنحو 3.2 مليون برميل في أيلول (سبتمبر).
وكانت هذه العوامل كافية لتسبب تراجعاً كبيراً مبكراً في الأسعار لو لم تكن الآمال معقودة على قيام «أوبك» بخفض إنتاجها لامتصاص الفائض وإعادة التوازن الى السوق.
غير أن المنظّمة قرّرت في اجتماعها الذي عقدته في تشرين الثاني (نوفمبر) عدم خفض إنتاجها وبالتالي أطلقت المرحلة الثانية من عملية تصحيح الأسعار لإعادة التوازن بين العرض والطلب.
تباينت الآراء والأحكام حول قرار المنظمة عدم دعم السعر الذي كان انخفض أكثر من 30 في المئة عن ذروته في منتصف السنة ووصل الى نحو 80 دولاراً للبرميل قبيل اجتماع «أوبك».
لكن من المهم الإشارة الى أن الحفاظ على هذا المستوى للأسعار، والذي يقع في النصف الأعلى للسعر المعادل للنفط الصخري، يتطلّب من «أوبك» خفض إنتاجها فوراً نحو مليون ونصف مليون برميل يومياً، وهو أمر صعب التحقيق.
وحيث أن الحفاظ على هذا المستوى للأسعار سيتيح استمرار النمو في إنتاج النفط غير التقليدي الأعلى كلفة، يرجّح أن تعود «أوبك» بعد فترة وجيزة لتواجه الخيار الصعب ذاته: إما الدفاع عن حصتها في السوق، وإما الدفاع عن الأسعار.
وبالتالي يمكن للمراقب الموضوعي تفهّم القرار الذي اتّخذته المنظمة بالدفاع عن حصتها في السوق وترك تحقيق التوازن بين العرض والطلب لآلياته، بخاصة أن حصتها السوقية البالغة نحو 40 في المئة من الإنتاج العالمي للنفط، لا تزال أقل كثيراً من حصتها في الاحتياط العالمي التي تفوق 70 في المئة.
نقلا عن الحياة