مما لا شك فيه أن الأمن والأمان من الأمور الهامة لاستمرار حياة الإنسان، ودعوة سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام " رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر "[1] ، دليل على أهمية الأمن. ويمن الله على قريش بنعمة الأمن في قوله تعالى: " لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ "[2] . ويتأكد المعنى أيضاً في قوله تعالى: " وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ "[3] ، وقوله تعالى: " وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا "[4] ، وهذه الآية يمكن اعتبارها آية إرشاد الآباء لطريقة تحقيق الأمان للذرية في حالة الخوف عليهم.
الأمن والأمان من الله والتأمين أحد الوسائل البشرية لتخفيف الضرر
فالله عز وجل في كتابه الكريم يحدد أن أساس ومصدر الأمن والأمان في الدنيا والآخرة هو الإيمان بالله وحده وذكره وعدم الظلم والعمل الصالح، قال تعالى: " الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ "[5] ، وقال تعالى: " الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ "[6] ، وهو أمن مؤكد الحدوث لأنه وعد الله لعباده المؤمنين في قوله تعالى: " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا "[7] . وهذا الوعد مشروط بـ " يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا "، فإذا وجد الشرك اختل الأمان بقدر وجوده، وإذا ضعف التوحيد ضعف الأمان بقدر ضعفه، فلا بد من تحقق الشرط ليترتب عليه المشروط .[8]
فبعد أن حدد الله تعالى للإنسان أساس ومصدر الأمن والأمان في الدنيا والآخرة ترك له الحرية في الإجتهاد وإعمال العقل والأخذ بالأسباب، وفق الظروف والمعطيات المتاحة، والخبرات والتجارب السابقة، والعبرة والاعتبار، كشأن بشري ليبادر الإنسان في إيجاد الوسائل التي تحقق له ولمن يعول وللمجتمع الأمان، وتخفيف الأضرار المادية الناشئة عن وقوع الأخطار الدنيوية التي يتخوف الإنسان من حدوثها، وهذه الوسائل البشرية إما أن تكون جائزة شرعاً فيتعامل بها أو محرمة ويجب إبطالها أو يكتنفها مخالفة شرعية ويجب تصحيحها.
حقيقة يجب المصارحة بها تتعلق بالتكافل والتأمين
هنا يجب المصارحة بحقيقة أن مسميات التأمين الإسلامي أو التأمين التعاوني الإسلامي أو التأمين التعاوني التكافلي أو التأمين التكافلي الإسلامي – كلها مترادفات بنفس المعنى يحلو للبعض استخدامها في تسمية التأمين التعاوني في كتاباتهم – هي مسميات لا تعبر عن التكافل الإسلامي في شئ، وهي مسميات مركبة تجمع بين الأضداد، فالتأمين أساسه دفع القسط ولا وجود للتأمين بدون القسط، والتكافل أساسه التواد والتراحم والتعاطف وبلا قسط، وإذا دفع فيه قسط لم يعد تكافلاً وانقلب إلى تأمين.
كما أن التكافل أصل في المنهج الاقتصادي الإسلامي، يقدم خدماته غير المحدودة لجميع أفراد المجتمع فقرائهم قبل أغنيائهم، والتأمين تطبيق بشري يقدم خدمات معينة وفق قواعد قانونية وفنية محددة لفئة الأغنياء في المجتمع، ولن يستطيع تغطية المجالات التي يغطيها التكافل في يوم من الأيام.
والأهم من ذلك هو بيان خطورة سلوك طريق " أسلمة الرأسمالية " أو بعبارة أدق " رأسملة الإسلام " لأنه يقطع الطريق أمام تقديم حلول جذرية للمشاكل الاقتصادية القائمة وفقاً لأحكام الإسلام وتصوراته الشاملة للحياة، التي تتعامل مع الإنسان باعتباره روح ومادة، وتتعامل معه بوصفه فرد وجزء من مجتمع، وتحميه بالموازنة بين مصلحته ومصلحة المجتمع لأن كلاً من المصلحتين الخاصة والعامة يكمل كلاهما الآخر، وفي حماية أحدهما حماية للآخر.
فالرؤية ليست مجرد " أسلمة للتأمين " لما يوفره من أمان للأفراد والشركات، أو لما يقوم به من وظائف اقتصادية في المجتمع، وإنما الرؤية هي خلق مجتمع تقترن فيه المساواة في توفير الكفاية لكل أفراد المجتمع بالأمان، والكرامة، والأخوة الإنسانية، والعدالة الاجتماعية، لتحقيق السمو الروحي للكائن البشري ليقوم بمهمته الأساسية التي خلقه الله من أجلها، وهي إخلاص العبادة لله رب العالمين، لقوله تعالى: " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ "[9] .
فإذا كان الأمر كذلك والواقع التطبيقي أثبت أن عملية التحول من التأمين التجاري إلى التأمين التعاوني أخفقت في تحقيق صيغة التأمين التعاوني المجاز التي وردت في الفتاوى الشرعية وقرارات المجامع الفقهية، ونتج عنها إشكاليات كثيرة بسبب اعتمادها على استخدام اسم " التأمين التعاوني "– وهو أحد أنواع التأمين التقليدي الذي له مواصفاته المعروفة في الغرب– ليطلق على عقد جديد له مواصفات أخرى بشروط شرعية ليصبح " التأمين التعاوني المجاز "، لتأتي شركات التأمين فتستغل الاسم والإجازة وتضعهما على عقود أخرى لها مواصفات وشروط مختلفة فينشأ " التأمين التعاوني المطبق "، مختلفاً عن التأمين التعاوني المجاز اختلافاً بيناً، فمن مقل في البعد ومن مكثر حسب جهة التطبيق، وهناك من أبعد حتى فاق التأمين التجاري ذاته[10] . وكان نتيجة لذلك صدور تنبيه بشأن شركات التأمين التعاوني من المفتي العام ورئيس هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية.
تنبيه بشأن شركات التأمين التعاوني [11]
" سبق أن صدر من هيئة كبار العلماء قرار بتحريم التأمين التجاري بجميع أنواعه، لما فيه من الضرر والمخاطرات العظيمة، وأكل أموال الناس بالباطل، وهي أمور يحرمها الشرع المطهر، وينهي عنها أشد النهي، كما صدر قرار من هيئة كبار العلماء بجواز التأمين التعاوني، وهو الذي يتكون من تبرعات من المحسنين، ويقصد به مساعدة المحتاج والمنكوب، ولا يعود منه شيء للمشتركين – لا رؤوس أموال، ولا أرباح، ولا أي عائد استثماري – لأن قصد المشترك ثواب الله بمساعدة المحتاج، ولم يقصد عائداً دنيوياً، وذلك داخل في قوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) وهذا واضح لا إشكال فيه، ولكن ظهر في الآونة الأخيرة من بعض المؤسسات والشركات تلبيس على الناس ولي للحقائق، حيث سموا التأمين التجاري المحرم: تأميناً تعاونياً، ونسبوا القول بإباحته إلى هيئة كبار العلماء، من أجل التغرير بالناس، والدعاية لشركاتهم، وهيئة كبار العلماء بريئة من هذا العمل كل البراءة، لأن قرارها واضح في التفريق بين التأمين التجاري والتأمين التعاوني، وتغيير الاسم لا يغير الحقيقة ولأجل البيان للناس، وكشف التلبيس، ودحض الكذب والافتراء صدر هذا البيان ".
التأمين التعاوني يحتاج لمزيد من البحث
إذا كانت رؤية هيئة كبار العلماء الذين أجازوا التأمين التعاوني على أنه تأمين إسلامي، هي أن التأمين التعاوني المطبق تلبيس على الناس ولي للحقائق وأنهم منه براء، فإن الأمر يحتاج إلى إعادة بحث ودراسة التطبيقات المعاصرة للتأمين التي تتشابه مع التكافل في بعض جزئياته، حتى يتبين للكافة أن التأمين التعاوني ليس تكافل الإسلامي، وأن التكافل بمعانيه الإنسانية وبما يقدمه من خدمات اجتماعية جليلة لا يصح اختزاله وتقديمه على أنه مجرد بديل للتأمين.
فخلاف أصحاب الفضيلة العلماء بشأن التأمين التعاوني يثبت أنه مازال بحاجة إلى مزيد من البحوث الاقتصادية والفقهية بمنهجية جديدة، تعتمد على التعاون بين الاقتصاديين المختصين في مجال التأمين وبين الفقهاء المعاصرين، بشرط الخروج من ضيق دائرة " أسلمة التأمين " المرتبطة بإعادة التوصيفات الفقهية وتغيير المسميات التأمينية لتوافق هذه التوصيفات، والدخول في رحابة الاجتهاد الاستصلاحي أو المصلحي الذي يواكب تطور الحياة العصرية.
الهدي النبوي في تصحيح المعاملات
اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بتصحيح المعاملات المالية التي كان العرب يتعاملون بها قبل بعثته من المخالفات الشرعية، وكذلك حرص على إبطال المعاملات المحرمة مع تقديم البدائل الشرعية لها، وهذا من مقتضى الحكمة النبوية في التيسير على العباد وتحقيق المصلحة لهم. ومن صور هديه صلى الله عليه وسلم في تصحيح المعاملات:
أ- تصحيح التعامل بالنقود
النبي صلى الله عليه وسلم أقر المسلمين على تعاملهم بالدراهم الفضية الفارسية والدنانير الذهبية الرومانية التي كانت متداولة بينهم في الجاهلية ولم يضرب لهم نقوداً خاصة بالدولة الجديدة، وكان أهل مكة يتعاملون بالدراهم الفضية وزناً لاختلاف أحجامها، وكان أهل المدينة يتعاملون بها عداً بصرف النظر عن اختلاف الحجم والوزن، فصحح لهم النبي ذلك بأن أرشدهم إلى ترك التعامل بالعدد[12] . فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الوزن وزن أهل مكة والمكيال مكيال أهل المدينة "[13] ، ومع هذا ظل الدرهم درهماً والدينار ديناراً ولم يصبحا الدرهم أو الدينار الإسلامي.
ب- تصحيح بيع السلم
عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: " من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى إجل معلوم "[14] .
في هذا الحديث أجاز النبي صلى الله عليه وسلم بيع السلم واستثناه من النهي عن بيع الإنسان ما ليس عنده الوارد في حديث حكيم بن حزام حيث قال: يارسول الله يأتيني الرجل فيريد مني البيع ليس عندي، أفأبتاعه له من السوق، قال: " لا تبع ما ليس عندك "[15] .
معالجة الغرر في التأمين وتصحيح تطبيقات التأمين التعاوني المجاز
استرشاداً بالهدي النبوي في تصحيح المعاملات للتيسير على الناس ورفع المشقة والحرج عنهم، وانطلاقاً من عدم تكلف النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في قوله تعالى: " وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ "[16] والتكلف: هو ما يشق على المرء عمله والتزامه بسبب الحرج، والمعنى أن ما جاء به النبي من الدين لا مشقة في تكاليفه وهو معنى سماحة الإسلام[17] .
من هذا المنطلق يمكن تقديم مقترح لمعالجة الغرر في التأمين بصفة عامة، وتصور لتصحيح تطبيقات التأمين التعاوني المجاز بصفة خاصة، ليمكن الاستفادة من التأمين في تحقيق المصلحة، ورفع المشقة والحرج عن الناس، على أن يظل التأمين تأميناً ناتجاً عن الفكر البشري الغربي، يمكن الاستفادة منه دون اللجوء إلى إضفاء صفة الإسلامي عليه طالما تم معالجة ما يكتنفه من غرر أو استغلال.
أولاً: مقترح بشأن ضابط الغرر
إذا كان الغربيون استثنوا التأمين من عقود القمار والغرر لدوره الاقتصادي والاجتماعي الذي لاغنى عنه للمجتمعات المعاصرة، فإن الفقهاء المسلمين أيضاً لديهم مستثنيات من الغرر كالجعالة والمسابقة وغيرهما للحاجة، وهذا يدل على أن الغرر غرران ممنوع ومتسامح فيه[18] .
والعلماء يجمعون على أن الغرر الممنوع هو الغرر الكثير، وليس اليسير، وبينهم اختلاف واسع حول ضابط الغرر الكثير، ورأى بعضهم أن الغرر الكثير ما كان غالباً في العقد حتى صار يوصف به، وأن الغرر اليسير هو ما لا يكاد يخلو منه عقد، ومن شأن الناس التسامح فيه حسب أعرافهم، وللخروج من الخلاف الذي يسببه استخدام ضابط الغرر الكثير في الحكم على العقود بالبطلان من عدمه فإن هذا يتطلب أمرين:
1- الاستعاضة عن ضابط الغرر الكثير، بضابط الغرر الذي يمكن الاحتراز منه (اجتنابه) بغير مشقة، والغرر الذي لا يمكن الاحتراز منه إلا بمشقة الوارد في تعبيرات بعض الفقهاء[19] .
ذلك لأن الغرر الكثير قد لا يمكن اجتنابه كما في بعض العقود كالجعالة وفيها غرر في العمل والأجل، ومع هذا فهي جائزة، لأن الناس يحتاجون إليها. كذلك الغرر اليسير قد لا يعفي عنه إذا أمكن اجتنابه بدون مشقة، وبهذا الضابط يكون الغرر الذي يتجاوز عنه هو الغرر الذي يتعذر اجتنابه إلا بمشقة عظيمة مع الحاجة إليه.
2- ألا ينظر إلى مقدار الغرر في ذاته، وإنما ينظر إلى مقداره بالنسبة إلى المصلحة التي تتحقق من التجاوز عنه. يقول العز بن عبد السلام في بيان اختلاف أحكام التصرفات لاختلاف مصالحها: " وكذلك شرع في الوقف ما تتم به مصالحه، كتمليك المعدوم من المنافع والغلات لموجود مبهم كالوقف على الفقراء والغزاة والحجاج، ولمعدوم مبهم كالوقف على أولاد الأولاد بعد الأولاد، وكالوقف على من سيوجد من الفقراء إلى يوم الدين، لأن مصلحة هذه الصدقة الجارية لا تحصل إلا بما ذكرناه.
وكذلك إخراج المنافع إلى غير مالك، كالوقف على بناء المساجد والقناطر ومصالحها "، ويختم كلامه بقوله: " إنما خولفت القواعد في الوقف لأن المقصود منه المنافع والغلات، وهي باقية إلى يوم الدين، فلما عظمت مصلحته خولفت القواعد تحصيلاً للمصلحة "[20] .
فاستخدام ضابط العسر واليسر في الغرر يقضي على التكلف واللجوء إلى الحيل لإجازة ما تم إبطاله بضابط الغرر الكثير، ويعطي مساحة إضافية للباحثين لإعادة بحث التأمين بصفة عامة لإجازته للحاجة والمصلحة.
والأهم من ذلك هو جعل الاقتصاديين والفقهاء يتفرغون لبحث الموضوع الأكثر أهمية وخطورة في التأمين، وهو خروج مئات المليارات من الدولارات سنوياً من ثروة دولنا المستوردة للتأمين إلى الخارج في صورة أقساط تأمين وإعادة تأمين، وهو ما يشكل إنهاكاً للاقتصاد وحرماناً من فرص استثمار هذه الأموال في النهوض بالاقتصاد الوطني، وإيجاد فرص عمل للعاطلين.
ثانياً: تصحيح النموذج التطبيقي للتأمين التعاوني المجاز
إلى أن يتبنى أصحاب الفضيلة العلماء لمقترح ضابط الغرر الذي يمكن الاحتراز منه (اجتنابه) بغير مشقة، والغرر الذي لا يمكن الاحتراز منه إلا بمشقة عظيمة وتطبيقه على التأمين بصفة عامة، والذي أرجو من الله أن يكون قريباً، فإنه يتوجب تصحيح النموذج التطبيقي للتأمين التعاوني المجاز، الذي جاء أقرب إلى التأمين التجاري منه إلى التأمين التعاوني، وأخفق في تحقيق صيغة التأمين التعاوني التي وردت في الفتاوى الشرعية وقرارات المجامع الفقهية.
ولتصحيح تطبيقات التأمين التعاوني المجاز للاستفادة منه في تحقيق المصلحة يجب أن تكون الصيغة المستخدمة في تكييفه الشرعي خالية من مبدأ المعاوضة، أي أن استخدامها لا يؤدي إلى وجود التزامات متقابلة بالتبرع، وأن تكون متوافقة مع غرض المشتركين وقصدهم، ويتأتى هذا بالإباحة أو الإذن.
ويستدل على مبدأ الإباحة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية فهم مني وأنا منهم "[21] . أرملوا: فرغ زادهم أو قارب الفراغ[22] .
والإمام العيني عند شرحه لحديث الأشعريين قال: " أن إخراج الرفقاء النفقة في السفر وخلطها ويسمى بالمخارجة، وذلك جائز في جنس واحد وفي الأجناس وإن تفاوتوا في الأكل، وليس هذا من الربا في شئ، وإنما هو من باب الإباحة ".
وقال في معنى: " فهم مني " أي فعلوا فعلي في المواساة. وليس المراد بالقسمة هنا القسمة المعروفة عند الفقهاء، وإنما المراد إباحة بعضهم بعضاً بموجوده وفيه فضيلة الإيثار والمواساة. وهذا لا يسمى هبة لأن الهبة تمليك المال، والتمليك غير الإباحة، وأيضاً الهبة لا تكون إلا بالإيجاب والقبول لقيام العقد بهما[23]
أهمية النموذج المقترح
إن عدم اعتبار الإباحة تمليكاً يصحح إشكاليات التأمين التعاوني الحالية والتي تتمثل في:
1- تصحيح البناء الشرعي للعلاقات التعاقدية، فبه تنحل مشكلة المعاوضة التي سببها الالتزامات المتقابلة بين المشتركين وصندوق التأمين، لأن المشترك يبيح لآخر أو آخرين استهلاك شيء دون مقابل، لكن يبقى الشيء المباح ملكاً له، كما تنحل مشكلة التكييف التعاقدي بين الشركة وحملة الوثائق، فلا حاجة إلى ذلك التقسيم للعلاقات التعاقدية التي تكون بين المشتركين والصندوق، وتلك التي تكون بين الصندوق والشركة، فتكون العلاقة مباشرة بين حملة الوثائق وبين الشركة، ومقتضاها إدارة عمليات التأمين على أساس الوكالة بأجر، واستثمار حصيلة التأمين على أساس المضاربة.
2- هذا النموذج يحل المشكلة التي أرقت المنظرين للتأمين التعاوني المجاز، وهي كيفية التصرف في الفائض التأميني، أي " ما يتبقى من أقساط المشتركين (المستأمنين) والاحتياطيات وعوائدهما بعد خصم جميع المصروفات والتعويضات المدفوعة أو التي ستدفع خلال السنة "[24] .
فمبدأ الإباحة يبقي الفائض في الصندوق ملكاً للمشتركين ويُخضع التصرف فيه لرغبتهم، ولا يكون من حق شركة التأمين أن تستحوذ على الفائض أو تتصرف فيه إلا بإذن مستقل من حملة الوثائق، فيكون لكل مشترك الخيار عند الاشتراك بين التنازل عن حصته من الفائض إن وجد على سبيل التبرع، أو أن يعود عليه بطريق التوزيع، أو الخصم المستقبلي من الاشتراك اللاحق.
3- بناء التأمين على الإباحة أو الإذن يحل قضية إلزام شركات التأمين التعاوني المجاز بتقديم قرض حسن لصندوق التأمين، في حالة عجز موجودات التأمين، وعدم كفاية تعويضات إعادة التأمين لسداد التعويضات المطلوبة، على أن تستوفيه الشركة في سنة ما من فائض السنوات التالية[25] .
فمبدأ الإباحة لا يعطي الحق لحملة الوثائق في إلزام شركة التأمين بتغطية التعويضات التي تتجاوز حصيلة صندوقهم التأميني، لأن في ذلك لزوم ما لا يلزم، فشركة التأمين وكلية بإدارة عمليات التأمين، ومستثمرة لحصيلة الصندوق بالمضاربة، وهي لم تتعدى أو تُقصر وعليه فهي غير مسئولة عن العجز الطارئ.
ويكمن حل مشكلة العجز الذي قد تواجهه شركات التأمين التعاوني المجاز، في تأسيس صندوق لهذا الغرض تشترك فيه كل شركات التأمين التي تعمل وفق نموذج الإباحة بنسبة معينة من موجودات صناديق التأمين التي تديرها، ويكون ذلك بطريقة الإباحة أيضاً التي معها تصبح شركات التأمين الأعضاء مالكة لصندوق تغطية العجز الطارئ، ويقوم هذا الصندوق بسد العجز للشركة العضو.
في الختام أسأل الله تعالى أن أكون وفقت في تقديم رؤية تساعد على تصحيح النموذج التطبيقي لعقد التأمين التعاوني للاستفادة منه في تحقيق المصلحة، وذلك دون اللجوء إلى تخريج عقد التأمين التعاوني بالقياس على أحد العقود المسماة في الشريعة لإضفاء صفة الإسلامي عليه، والتي لن تسلم من النقد باعتبارها محاوله لأسلمة التأمين التقليدي، وليست خطوة جادة نحو إقامة كيانات اقتصادية للتكافل الإسلامي الحقيقي الذي يستند على فريضة الزكاة الإلزامية ونظام الوقف التطوعي، وهما أداتان من أدوات النظام الاقتصادي الإسلامي المستمد من الشريعة الإسلامية.