بمناسبة العشر الأواخر من رمضان، واهتمام المسلمين بأمر الزكاة، فقد ناسب أن أضع بين يدي القارئ الكريم رحلة من رحلات النقد والمحاسبة في العهد النبوي وما بعده. تتفق دراسات عدة حول نشأة النقد والعملة في التاريخ الإسلامي وفقا لمصادر تاريخية أبرزها كتاب شذور العقود في ذكر النقود للمقريزي، وأن العرب كانت تتعامل بالدنانير "الذهبية" البيزنطية، والدراهم "الفضية" الفارسية، وبعض الدراهم "الفضية" الحميرية وسميت بالدانق أيضا، هذه هي العملة في تجارة قريش، وحينما تولى عمر بن الخطاب رضى الله عنه أمور الخلافة ضرب الدراهم "الفضية" ونقش على بعضها عبارة "الحمد لله" وعلى البعض الآخر عبارة "محمد رسول الله"، وعلى جزء منها "عمر" وكلمة "جايز" أو "واف" وقد سيمت بالدراهم البغلية وكان الذي ضربها لعمر رجل من اليهود. وفي كتابه إغاثة الأمة بكشف الغمة قال المقريزي عندما أشار إلى عملية وزن الدينار والدرهم بحبوب الخردل، أن المثقال منذ وضع لم يختلف في جاهلية ولا إسلام.
ويقال إن الذي اخترع الوزن في الزمان القديم بدأ بوضع المثقال، فجعله 60 حبة شعير، زنة الحبة 100 من حب الخردل البري المعتدل، وأنه ضرب صنجة بوزن الـ100 حبة من الخردل، "والصنجة في المعجم هي كفة الميزان"، و100 حبة في صنجة ثانية، ثم صنجة ثالثة، حتى بلغ مجموع الصنجات خمس صنجات. فكانت الصنجة نصف سدس مثقال، وأضعف وزنها "أي: ضاعف وزاد عدد الحبات" وصارت صنجة ثلث مثقال، فركب منها نصف مثقال، ثم مثقال، فعلى ذلك تكون زنة المثقال الواحد ستة آلاف حبة من الخردل.
لقد ألهم عمر جميع الخلفاء من بعده فحاول كل خليفة أن يضرب دينارا أو درهما باسمه، وهذا يعود إلى أسباب من بينها قاعدة أن النقود الرديئة تطرد النقود الجيدة من التداول، فالنقود التي ضربها عمر كانت موثوقة أكثر من غيرها، ولم تكن هناك مدينة من مدن المسلمين قد تخصصت في ضرب النقود، بل كانت جهودا محدودة في العهد الأول، ولذلك سرعان ما تختفي هذه النقود وتنسحب من التداول على أساس أن المجتمع يحتفظ بها ويدفع بالتي فيها شك، ولهذا كان الخلفاء يسعون إلى ضرب كميات جديدة من النقود لضمان التجارة العادلة، فظهرت نقود في عهد الخليفة عثمان رضي الله عنه، وكذلك في عهد الخليفة علي بن أبي طالب رضى الله عنه، واستمر الحال كذلك في عهد معاوية رضى الله عنه، لكن مع الخلافات السياسية ومطالبة كثير بالخلافة قام بعضهم بضرب النقود للدلالة على الاستقلال المالي، لم تستقر أمور الخلافة إلا في عهد الخليفة عبدالملك بن مروان، الذي ظهر له أن الناس تحتفظ بالنقود الجيدة، وتدفع النقود الرديئة سواء في الخراج أو الجزية، وهذا أثر في الأحوال الاقتصادية حينها وتسبب في ارتفاع الأسعار وكثرة الغش والغبن، لذلك قرر توحيد النقد في الدولة الإسلامية وهذه أول مرة في تاريخ الدولة الإسلامية، ويقال أيضا إن لذلك أسبابا أخرى وهي قصة القراطيس، والقراطيس كانت تصنع في مصر وتصدر منها إلى دول العالم في ذلك الوقت للكتابة عليها، وكانت معظم الدنانير الذهبية المستخدمة في العالم الإسلامي تأتي من الدولة البيزنطية، وهكذا فإن السلع تتدفق من العالم الإسلامي وتأتي في مقابل ذلك الثروة، وقد قرر عبدالملك بن مروان أن يكتب عليها، "قل هو الله أحد" فكتب إليه ملك الروم، إنكم أحدثتم في قراطيسكم كتابا نكرهه، فإن تركتموه وإلا أتاكم في الدنانير من ذكر نبيكم ما تكرهونه.
فكبر ذلك في صدر عبدالملك بن مروان، وكره أن يرجع عن أمره بشأن القراطيس، فأرسل إلى خالد بن يزيد بن معاوية فقال له حرم دنانيرهم فلا يتعامل بها، واضرب للناس سلكا، ولا يدخل شيء من القراطيس للروم لو مضوا فيما هددوا به، فجعل وزن الدينار 22 قيراطا وجعل وزن الدرهم 15 قيراطا، والقيراط أربع حبات من القمح، وجاء في كتب السير، أن خالد بن يزيد بن معاوية قد قال لعبدالملك بن مروان، إن علماء من أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن أطول الخلفاء عمرا من قدس الله في الدرهم، فجاءت الدراهم الإسلامية بذكر الله.
وقد أمر عبدالملك أن تضرب هذه النقود في كل الأمصار، ويحدد في كل نقد اسم المدينة التي ضرب فيها، وقد كان من الأسباب التي دعت عبدالملك بن مروان إلى ضرب النقود على ميزان واحد تنوع أوزان الفضة بين الناس، فكان الكبير منها وكان الصغير، فقد يتم الإجحاف بحق الفقير أو الغني، وهذا المبدأ العظيم الذي تم إقراره في ذلك الوقت هو ما نسميه اليوم ثبات وحدة النقد، وهو أمر في غاية الأهمية من أجل القيود المحاسبية، ولقد عمل عبدالملك بن مروان على إحصاء النقود التي يتم ضربها في كل المدن الإسلامية، وهو بذلك يعد أول نظام مالي في الإسلام، أسهم ذلك في تحديد كميات النقد اللازمة لتسيير الاقتصاد في الدولة الإسلامية مترامية الأطراف، وقد كانت كل دور السك تخضع لمراقبة صارمة حيث يتم وزن الدرهم والدينار من وقت إلى آخر، وجاءت الروايات أن واليا قد اختبر الوزن فوجده ناقصا فأمر بضرب كل صانع ألف سوط، وهذا أيضا من ملامح الرقابة النقدية في ذلك الوقت.
نقلا عن الاقتصادية