أثار السياسيون في مختلف البلدان العربية خلال السنوات الستين الماضية مسألة أهمية إقامة الصناعات من أجل الانتقال باقتصادات بلدانهم من التخلف إلى التطور والعصرنة أو التحديث.
واستُخدِمت قضية الصناعة كمحور أساسي في التغيرات السياسية والاجتماعية، ولم تتوقف الوسائط الإعلامية لمختلف القوى السياسية عن طرح هذه المسألة وكونها المنقذ للشعوب العربية من براثن الجهل والتخلف والمستويات المعيشية المتواضعة.
وبعد نجاح عدد من الانقلابات العسكرية في بلدان مثل مصر والعراق واليمن والسودان وبعد استقلال الجزائر وانقلاب القذافي في ليبيا لم تتوقف الأنظمة الحاكمة الجديدة عن اتهام الأنظمة القديمة بأنها عمدت إلى تكريس التخلف الاقتصادي وإهمال العناية بالتنمية الصناعية الكفيلة بتحقيق الاكتفاء الذاتي لهذه البلدان وتحريرها من التبعية للاقتصادات الاستعمارية وغير ذلك من طروح سُوِّقت للجماهير العربية المتعطشة للانعتاق من التخلف والفقر والبطالة.
لا شك في أن الاقتصادات العربية في مطلع خمسينات القرن الماضي كانت تعتمد على الإنتاج الزراعي وتصدير المواد الأولية وتمكنت بلدان من الاستفادة من صادرات القطن مثل مصر وسورية، وصّدر العراق التمور والحبوب وتمكن السودان من تنمية المواشي وتصديرها إلى حد ما.
وبدأ عدد من البلدان العربية مثل العراق والسعودية والكويت بتصدير النفط الخام إلى العالم بعد توافقها على عمليات الإنتاج مع شركات نفطية أميركية وبريطانية وفرنسية.
لكن كيف بدأت قصة التصنيع في العالم العربي؟ هل تمكن أصحاب القرار السياسي في بلدان مثل مصر والعراق وسورية والجزائر وغيرها من اختيار الصناعات التحويلية الملائمة لاقتصادات تلك البلدان؟ معلوم أن فلسفة التصنيع ركزت على أهمية الصناعات الثقيلة مثل الحديد والصلب والألومنيوم ثم كانت هناك الصناعات البتروكيماوية.
لكن لم يجرِ التيقن من صلاحية الصناعات بموجب متطلبات ومعايير الميزة النسبية في البلدان المشار إليها.
فالعديد من الصناعات الثقيلة المقامة استهلكت الطاقة والجهود من دون أن تكون ذات أهمية اقتصادية، وثبت عدم قدرة العديد من هذه الصناعات على مواجهة المنافسة مع المنتجات الأجنبية التي تتمتع بتكاليف اقتصادية مناسبة وفي الوقت ذاته جودة عالية تصعب مضاهاتها.
واستنفدت تلك الصناعات تمويلات حكومية وغير حكومية في أكثر من بلد عربي ناهيك عن الدعم والحماية التي يمكن أن تترجم إلى تكاليف اقتصادية مهمة.
ولذلك لم تتمكن صناعات في مصر والجزائر والعراق وسورية من تحقيق إيرادات سيادية تحسن أوضاع موازين المدفوعات.
وأقيمت صناعات مكلفة مثل صناعات السيارات التي لم تؤد إلى الاستغناء عن استيراد السيارات.
وفي خضم النزعة السياسية الشمولية لم يتمكن رجال الأعمال والاقتصاديون من طرح وجهات نظر عقلانية تتعلق بتوجهات الحكام نحو الصناعة إذ لم يكن ثمة من يريد الاستماع إلى أراء أو وجهات نظر فنية.
وبدأت في الماضي صناعات مهمة معتمدة على المواد الخام المتوافرة في عدد من البلدان العربية وتوافر الأيدي العاملة غير المكلفة.
ومن تلك الصناعات الملائمة كانت صناعة النسيج في مصر وسورية حيث نجح كلا البلدين في تبوؤ مواقع مهمة في تصدير أفضل أنواع القطن والنسيج إلى البلدان المستهلكة.
كذلك كان هناك تصنيع الحمضيات وغيرها من مواد غذائية.
يضاف إلى ذلك أن تكرير النفط كان أساسياً في البلدان النفطية حيث تتوافر المواد الخام ويمكن التحكم بالتكاليف بما يمكن من تصدير المكررات والمشتقات بأسعار تنافسية. ويؤدي ربط الصناعة بعلاقات مع مصادر المواد الخام إلى خلق أعمال اقتصادية أكثر نجاعة وقدرة على تحقيق النجاح.
وأدى الاهتمام غير المسؤول بالتصنيع لدى السياسيين إلى إهمال إمكانيات القطاعات الأخرى، بل أحياناً إلى تخريبها.
ومن أهم القطاعات التي عانت تلك التوجهات الفجة قطاع الزراعة الذي كان يمكن أن يرتقي بمساهمته في الناتج المحلي الإجمالي في مصر والعراق والسودان وسورية لو أمّنت الحكومات الأموال الكافية من أجل توظيف آليات إنتاجية جديدة والارتقاء بمستوى التقنيات المستخدمة وعملت على تحسين ظروف العمل للفلاحين وتحصين الخدمات التي تتطلبها عملية تعزيز الرعاية الصحية والتعليم بما يمكن من رفع مستوى نوعية الحياة بينهم.
وكان ربط الإنتاج الزراعي بصناعات تعتمد على طبيعة مخرجات ذلك الإنتاج كفيلاً بتعزيز تنافسية البلدان المذكورة في الأسواق التصديرية. يضاف أن الاهتمام بالزراعة كان سيؤدي إلى الاكتفاء الذاتي بسلع أساسية، خصوصاً المواد الغذائية ويخفض من فاتورة الاستيراد.
لا تزال المتغيرات السياسية في البلدان العربية في حال سيولة وليس معلوماً متى ستستقر الأوضاع ولكن لكي يثبت أي نظام سياسي جديد شرعيته لا بد من أن يضع البرامج الاقتصادية المناسبة. لذلك يجب التركيز على تعزيز الاهتمام لتحقيق الفائدة من نشاطات الاقتصاد المختلفة.
وضروري أن يرتكز الاهتمام بالصناعة إلى معطيات واقعية تؤدي إلى تحقيق النتائج المرجوة وإقامة الصناعات ذات الجدوى الاقتصادية.
فلا فائدة من صناعات قد لا تكون ذات جدوى أو لا تمكن من تحقيق إيرادات سيادية أو تعمل وفق معايير اقتصادية أساسية منها توظيف الموارد والقدرات الوطنية البشرية والمادية، وتعزز إمكانيات الاستفادة من قدرات القطاعين العام والخاص.
ولا بد لعملية التصنيع من أن تؤدي إلى عمليات تكامل بين القطاعات الأساسية في أي من البلدان العربية بما يؤدي إلى كفاءة توظيف الأموال وتعزيز إمكانيات خلق فرص التوظيف في القطاعات الاقتصادية المختلفة.
نقلا عن جريدة الحياة