اضطرت دول أساسية ومكتظة بالسكان إلى البحث عن تمويل للوفاء بالتزاماتها الأساسية والتوسع في الأعمال الإنمائية، ما جعلها من الدول المدينة وأحياناً غير القادرة على الوفاء بخدمة الديون الخارجية أو الداخلية. ولا شك أن الديون الكبيرة وارتفاعاتها إلى مستويات عالية كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي تؤدي، في أكثر الأحيان ، إلى أوضاع اقتصادية صعبة، إن لم تكن مزرية، وتدفع إلى مراجعة أسعار صرف العملة الوطنية أو تعديل السياسات النقدية، منها رفع أسعار الخصم من قبل البنوك المركزية، في محاولات لتفادي التضخم وما يؤدي إلى معاناة معيشية لغالبية السكان. ومثلت الديون الخارجية أزمة مالية عالمية في ثمانينات القرن الماضي وعصفت باقتصادات بلدان أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا وأدت، أحياناً ، إلى تحولات سياسية عميقة في تلك البلدان. كما أن أزمة الديون السيادية في البلدان الأوروبية مثل اليونان وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال وإرلندا وعدد من بلدان أوروبا الشرقية، دفعت البنوك المركزية في الدول الرئيسية وصندوق النقد الدولي إلى تبني سياسات لإسعاف هذه البلدان والعمل من أجل إعادة الاستقرار المالي والنقدي. ولا تزال هذه الأوضاع مثيرة للقلق وتحمل إمكانات تعطيل الانتعاش الاقتصادي الحقيقي في عالمنا هذا.
تمت في مصر خلال السنوات القليلة الماضية محاولات لإنجاز إصلاح اقتصادي بنيوي، تأخر كثيراً . وكان من أهم ملامح السياسات الإصلاحية إنجاز عملية تعويم سعر صرف الجنيه المصري، والذي ظل المسؤولون المصريون على مدى عقود طويلة يحاولون الحفاظ على سعر صرفه من دون الالتفات للحقائق الموضوعية المحيطة بالاقتصاد المصري. وقرر البنك المركزي المصري تعويم سعر صرف الجنيه في أوائل تشرين الثاني (نوفمبر) 2016. وأثار التعويم تخوفاً بين الاقتصاديين ورجال السياسة من تأثير ذلك في الأوضاع المعيشية للمواطنين، خصوصاً الطبقات الفقيرة والمتوسطة، وقدر بعضهم أن المصريين فقدوا مباشرة بعد التعويم 65 في المئة من قيمة أموالهم. لكن ذلك التعويم مكن مصر من كسب ثقة المؤسسات المالية العالمية وقام صندوق النقد الدولي بتقديم تمويلات على مدى ثلاث سنوات بقيمة 12 بليون دولار. ووفقاً للمعلومات الصادرة عن البنك المركزي المصري بلغت أرصدة البلد من النقد الأجنبي ما يزيد على 44 بليون دولار نتيجة للتمويلات وارتفاع حصيلة الإيداعات والتحويلات من المصريين في الخارج وتنامي إيرادات السياحة خلال الشهور الأخيرة، ناهيك عن تحسن مردود الصادرات المصرية. في مقابل ذلك ارتفعت الديون الخارجية التي بلغت في نهاية عام 2017 ما يقارب 80.8 بليون دولار.
وكان ارتفاع الدين الخارجي بمعدل 2.3 في المئة خلال عام 2017، ومثّل ما يوازي 36.2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
هناك نموذج آخر هو تركيا التي تواجه صعوبات حالياً للتوفيق بين الإرادة السياسية لقيادتها وتلك التي تتطلبها المعطيات الاقتصادية، كما يراها المسؤولون في البنك المركزي. وتبلغ قيمة ديون تركيا الخارجية في نهاية عام 2017 ما يربو على 453 بليون دولار. وزادت الضغوط أخيراً على سعر صرف الليرة التركية التي هبطت إلى ما يقارب 4.4 ليرة للدولار. كما أن هذا الدَين الخارجي يساوي 53.2 في المئة من قيمة الناتج المحلي الإجمالي. وخلال كانون الثاني (يناير) سجل الحساب الجاري عجزاً بمقدار 7.1 بليون دولار. وهناك معضلات مهمة تواجه تركيا من أهمها توتر العلاقات السياسية مع أوروبا والولايات المتحدة حول ملفات عدة، وتأثر أوضاع السياحة خلال السنتين الماضيتين بالمشكلات الأمنية الناتجة عن الحرب المستعرة في سورية، والمواجهات مع الأكراد في الداخل. ويتطلب الأمر تحسين البيئة الاقتصادية وتجاوز المشكلات السياسية والأمنية للتمكن من مواجهة الالتزامات الناتجة عن الديون.
وتبين أوضاع مصر وتركيا أن المعالجات المستحقة للاختلالات الاقتصادية قد تتطلب وقتاً مهماً للوصول إلى معادلة مقبولة بين الاستدانة والاستقرار المالي والنقدي . ولا شك أن المدة اللازمة للوصول إلى تلك المعادلة قد تكون طويلة على فئات اجتماعية واسعة.
نقلا عن الحياة