كما أشرنا في المقال السابق، فأسعار النفط تخضع لعوامل متشابكة، وهي في تغير وتطور مستمر، منها ما هو متوقع، ومنها ما هو غير ذلك، فالعلاقة بين سعر النفط والطلب معقدة جداً وتتفاعل مع عناصر كثيرة، يستحيل التنبؤ بحدوثه، مثل: اندلاع الحروب والقلاقل السياسية الداخلية، والنزاعات حول منابع النفط، بالإضافة الى الأحوال المناخية والكوارث الطبيعية والأعاصير التي تحدث على وجه الخصوص في مناطق إنتاج وتكرير النفط، إلخ... من عوامل كثيرة ومتشابكة تؤتر في تقديرات العرض والطلب المستقبلي وبالتالي في أسعار النفط.
وبالرغم من الصعوبة في تحديد الأسعار المتوقعة لعام 2014م، إلا أن إبراز أهم العوامل المتعلقة بتأثير سعر النفط على الطلب مع إيضاح تأثير كل منها وبشكل مختصر؛ يبين اتجاهات الأسعار والمستويات المتوقعة لها مستقبلا.
وفي هذا الجزء من هذا المقال، سنكمل ما تطرقنا اليه من أسباب تؤثر في الأسعار، كارتفاع الطلب لأسباب معينة كالانتعاش الاقتصادي العالمي المرتقب، أو القوة الشرائية للدولار وتأثيراته على الاسعار والمخزونات التجارية من النفط الخام، أو من الجهة الأخرى انخفاظ العرض لأسباب سياسية معينة وتأثيرات مباشرة.
انخفاض العرض
يبقى النفط أهم سلعة استراتيجية عالمية وهو المحرك الأساسي في الاقتصاد الدولي، حيث إن معظم دول العالم حالياً تعتمد على النفط في مزيج الطاقة المستهلك في اقتصادياتها الكلية وبالتالي ينخفض الطلب عليه نسبياً مع انخفاض معدلات النمو الإجمالي، ويرتفع الطلب عليه نسبياً مع ارتفاع معدلات النمو الإجمالي، ولقد شكلت الأزمة المالية العالمية وما تبعها من الركود انخفاضا على الطلب للنفط وبالتالي في هبوط أسعاره، ولكن بدأ يتعافى تدريجياً منذ عام 2010، ويتلازم مع ذلك انتعاش الطلب تدريجيا.
وبنظرة عاجلة على الأسواق النفطية خلال العقد الماضي فلقد قل الطلب على النفط، وبالتالي هوت أسعار النفط من مستوى قياسي قرب 150 دولارا للبرميل في منتصف عام 2008م، إلى أقل من 33 دولارا للبرميل خلال ذروة الأزمة المالية أي في كانون الأول (ديسمبر)، ثم بدأت الأسعار في التحسن ووصلت إلى ضعف مستواها أي فوق 60 دولارا في الأشهر الستة التي أعقبت ذروة الأزمة واستقر خلال الربع الأخير من عام 2009 عند مستويات 70 دولاراً للبرميل، ثم الى مستوى المائة دولار للبرميل حالياً بالرغم من أن الانتعاش الاقتصادي العالمي بطيئ ولم يضغط هذا الطلب على المعروض بشكل كبير؛ وهذا بسبب المؤثرات سلباً على المعروض من المواضيع السياسية المهمة في الدول المنتجة للنفط التي لم تحسم بعد إقليمياً، أهمها على صعيد «العرض»، التدهور السياسي المتنامي في العراق، وسوريا، والقلاقل السياسية حول منابع النفط المتزايدة في نيجيريا وجنوب السودان، وكذلك استمرار تدهور الأوضاع في ليبيا حاليا، بالاضافة الى عدم وضوح الرؤية المستقبلية للاتفاقية المبدأية بين إيران والغرب المعروفة بـ(خمسة +واحد).
القوة الشرائية للدولار
يعتبر الدولار عبر السنين، القاعدة الصلبة للازدهار الاقتصادي في الولايات المتحدة، ومصدر الثقة العالمية العالية في الاقتصاد الأمريكي. هذان العاملان المهمان هما السر وراء قوة الدولار وتبوئه أهم مركز عالمي بين العملات الدولية.
ويعتمد الدولار بطريقة غير مباشرة على الثقة الدولية بالاقتصاد الأمريكي، التي بدورها، أي هذه الثقة العالمية، جعلت من الدولار العملة المستخدمة في التجارة الدولية وحتى في المعاملات الداخلية لكثير من البلدان، وذلك من جراء ربط صرف العملة الداخلية لكثير من البلدان بالدولار.
وإكمالاً لدائرة قوة ومركزية الدولار التراكمية، فالدولار الذي تستخدمه أمريكا والدول الأخرى كعملة في التجارة الدولية، تتم في ضوئه إعادة تحويل المنتجات والسلع والثروات إلى احتياطيات مالية بالدولار حجمها يتجاوز ثمانية تريليونات دولار، وموظفة بشكل كبير في استثمارات في الاقتصاد الأمريكي وأسواقه الداخلية في مستندات الخزانة الأمريكية وغيرها من المدّخرات بالدولار كالأسهم الأمريكية والعقارات وما شابهه.
من ذلك نرى أن اعتماد الدولار في التجارة والمعاملات الدولية يحقق لأمريكا دور الخزانة العالمية، التي تطبع الدولارات بغطاء لا تملكه من احتياطيات استثمارية أجنبية، ولكن ما زال يحظى بالقبول العالمي.
وبهذه الأسباب، أي اعتماد الدولار في التعاملات الدولية، وقبول العالم بالدولار الأمريكي كعملة رئيسة في معاملاتها التجارية، فإن أكثر من ثلثي مبادلات العملات العالمية يتم حالياً عبر الدولار، ويتحكم فيها الدولار، الذي يمثل ثلثي الاحتياطيات المالية العالمية.
مما يجعل من الولايات المتحدة البنك المركزي الدولي، وشيكاته هي الدولار التي تتحكم في سعر صرفها الولايات المتحدة.
وفي ضوء تدني سعر صرف الدولار والأزمات المالية المتعاقبة، فالتجارة الدولية في بضائع مثل: النفط، والمعادن، والمحاصيل، تتم بالدولار الذي لا يعتمد على أي غطاء أو احتياطي، بل إن اعتماد الدولار في التجارة الدولية وبالأخص التعاملات النفطية يحقق لأمريكا ودولارها تغطية احتياطية من نفط دول الأوبك التي لا تملكه الحكومة الأمريكية ويحقق لها دور الخزانة العالمية أو البنك المركزي للعالم، ونظراً لأن الدولار هو العملة العالمية لتسعير النفط فإن استمرار تراجع الدولار في ظل وجود أزمة مالية عالمية كان مصدرها الولايات المتحدة الأمريكية، فإن القوة الشرائية للدولار ضعفت بشكل كبير فاقت مستويات التضخم، ولذلك تأثير مباشر في أسعار النفط، فالأزمات الاقتصادية المتلاحقة على الولايات المتحدة خلفت دولاراً ضعيفاً ويمثل مخاطرة كبيرة تنعكس على أسعار النفط نظراً لأن الدولار الأمريكي يستخدم في المبيعات الدولية للنفط والمنتجات المكررة، وهذا يعني أن أسعار النفط لها وضع خاص من ناحية تقلبات سعر صرف الدولار الذي يتبعه فرق في القوة الشرائية لخامات النفط المستوردة بين الدول، وبالتالي تأثير الأسعار عليها.
إن التراجع الحاد للدولار وضعفه، يمثل حصيلة من المخاطر لأسعار النفط على الدول المنتجة للنفط، ولكنه في الوقت نفسه سيسهم في رفع الاستهلاك على النفط من الدول الأخرى كالهند والصين وأوروبا واليابان فعلى سبيل المثال، في أوضاع السوق الحالية وبسبب سعر صرف الدولار المتدني فإن المستهلك الأوروبي أو الياباني مثلاً يدفع للمنتجات النفطية سعرا أقل مما يدفعه المستهلك في أمريكا أو الدول الأخرى المرتبطة عملتها بالدولار؛ نتيجة لارتفاع عملة الين أو اليورو مقابل الدولار.
وهو ما سيؤدي على الأرجح إلى استمرار تعرّض الدولار الأمريكي للضغوط، مما يؤدي إلى جعله أقل سعرا في نظر المستثمرين الأجانب الراغبين في شراء السلع المقوّمة بالدولار.
وسعر النفط يدعمه تراجع الدولار المنخفض فترتفع أسعار السلع المقومة بالدولار مثل النفط عندما يتراجع سعر العملة الأمريكية، إذ إنها تصبح أرخص على المشترين بعملات أخرى.
ومن الأمثلة التي توضح تأثير الدولار على اسعار النفط هو هبوط اسعار النفط بقوة في الربع الثاني تزامناً مع الوقت الذي اشتد فيه الحديث عن قيام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بالانسحاب التدريجي من برنامجه للتحفيز النقدي، وربما سيكون للانسحاب التدريجي الذي يقوم به الاحتياطي الفيدرالي والطبيعة الإيجابية لتطبيقه على سعر الدولار آثار سلبية بالنسبة للنفط.
المخزونات التجارية
أما ما يشاع عن أن كمية المخزونات التجارية من النفط الخام لها تأثير مباشر في أسعار النفط لعام، إلا أنه وفي ظل بيانات عن ضمور بعض من حقول النفط في الخليج وفنزويلا وروسيا وإندونيسيا وبحر الشمال، وكذلك ارتفاع تكاليف الاستثمار في موارد جديدة للطاقة وازدياد مطرد في تكلفة إنتاج النفط، فالتوقعات تجمع على أن يرتفع الطلب على النفط عام 2014م ليصل إلى مايقرب من 90 مليون برميل يوميا، ولكن في المقابل توجد مخزونات وفيرة حسب مصادر إدارة معلومات الطاقة الأمريكية، وبالتالي ربما ستخفف من ضغوط الأسعار وتقيد نموها في بداية عام 2014م، ولكن الطلب المطرد المرتقب على النفط في فترة النمو الاقتصادي العالمي مع القلاقل السياسية حول منابع النفط، ستكون كافية لاستنفاد المخزونات النفطية العالمية الضخمة، وبالتالي فإن أسعار النفط ستستقر وربما تتجه صعوداً بمجرد تعافي الاقتصاد العالمي.
وبما أن النفط لا يزال هو المحرك الأساسي لتعافي الاقتصادي الدولي المرتقب خلال عام 2014م، فلا شك أن الطلب عليه سيرتفع في هذه السنة، ولكن بالرغم من التنبؤ بتحسن الاقتصاد العالمي إلا أن تشعب العوامل الأخرى المؤثرة بين الإنتاج ومستويات الاستهلاك وبالتالي سعر النفط ومستويات تحسن الاقتصاد العالمي تجعل من العلاقة بينهما على درجة عالية من التعقيد والضبابية لوضع أي تصور لمستوى الأسعار المستقبلية المتأثرة بمستويات الاستهلاك، وبالرغم من الضبابية تلك إلا أن مستويات المائة دولار للبرميل هي السعر المناسب للمنتجين، وكذلك للمستهلكين، كما تصرح به الدوائر الرسمية السعودية بين الفينة والأخرى، كون ذلك السعر عادلاً يفي بالتزامات الدول المنتجة تجاه الاستثمارات النفطية، من دون التأثير في الاقتصاد العالمي، ومن الواضح والحال كذلك أن مستوى الأسعار ستبقى عند المائة دولار وذلك لتوازن المعروض النفطي مع الطلب على النفط وبالتالي استقرار سعره عند تلك المستويات متخذة مسارا موازيا للنمو الاقتصادي.
وهنا يتضح الدور المهم لمنظمة أوبك، وعلى رأسها العضو المميز، أي المملكة العربية السعودية، في الأسواق النفطية العالمية لموازنة المعروض مع الطلب العالمي، واستقرار الاسعار عند مستويات لا تضر بالنمو الاقتصادي، وفي نفس الوقت تكون عائداً مجزياً للدول المنتجة.
وفي المقال اللاحق سنلقي بعض الضوء على الدور المهم الذي تقوم به المملكة، كونها العضو «المميز» في منظمة «أوبك»، ومعدلات إنتاج المملكة النفطي. فالمملكة تستمد تميزها كونها المنتج المرجح في السوق، وبمحافظتها باستمرار على طاقة فائضة خلال الـ 30 سنة الماضية لأسباب استراتيجية.
والآن تتراوح الطاقة الإنتاجية الإضافية للمملكة بين ثلاثة ملايين الى اربعة ملايين برميل يومياً، ومن منطلق حرص المملكة على تكريس واستمرار دور ‹›أوبك›› كعنصر استقرار في السوق استطاعت المنظمة إجهاض أية مخاوف حول نقص الامدادات، وذلك لاستعداد المملكة كعضو مرجح بزيادة إنتاجها لسد النقص من الدول الأعضاء، وكذلك مقدرة اوبك على ازالة اي مخاوف من فائض الإمدادات وارتداداتها السلبية على الاعضاء من خلال تقليص الإنتاج إلى ما دون حتى السقف المتفق عليه وهو 30 مليون برميل في اليوم.
ورأينا ذلك فعلياً وتراجع إنتاج «أوبك» بالفعل إلى ما دون الحصة المقررة في الربع الاخير من العام الماضي حيث وصل إلى 29.64 مليون برميل في اليوم، وهو ما يحسب للمنظمة وعلى ازدياد مستوى الالتزام بالحصص المقررة لكل عضو. ونظراً لأهمية منظمة «أوبك» كعامل فعال في استقرار اسواق النفط وبالتالي أسعاره، فسنتناول هذا الجانب في المقالات اللاحقة بمشيئة الله.
نقلا عن جريدة اليوم